الدروس الخصوصية.. جريمة بحق التعليم

 

 

حميد السعيدي

العالم يحتفي بإنجازاته في مختلف المجالات الاقتصادية والتقنية والمعرفية، ويسعى لتحقيق التنافس العالمي القائم على الابتكار والإبداع، والإنتاج الاقتصادي الذي يُركِّز على التقنية الحديثة التي أصبحت لغة اليوم، أما نحن فما زلنا متأخرين بعقود عن ركب الحضارة، ونركز على الاهتمام بقضايا سطحية ونبتعد عن الاهتمام بمعالجة الخلل في المنظومة الإنتاجية، والتي أصبحت تعاني من العجز في بناء أجيال مبتكرة ومبدعة وذات حس وطني منتج، فقد تأخرنا كثيراً وربما سيطول ذلك؛ طالما لم تُوجد بعد تلك الرغبة الحقيقية التي تستطيع أن تحدث ذلك التغيير الإيجابي على واقع التعليم بالبلد، بالرغم من التوجيهات السامية من جلالة السلطان قابوس بن سعيد عام 2011م والتي ركزت على القيام بعملية تقييم شامل للمسيرة التعليمية بالسلطنة، وتوجيهاته عام 2012 بمراجعة شاملة لسياسات التعليم وخططه وبرامجه، ولكننا لم نشهد ذلك الحراك في المؤسسة التربوية الذي يحقق التغيير الملموس في واقع التعليم؛ فالمؤشرات الدولية التي أعلن عنها خلال الفترة الماضية وضعتنا في المراكز الأخيرة، وهذا مُؤشر طبيعي في ظل ضعف مستوى مخرجات التعليم وعدم امتلاكها للمهارات التي تؤهلها للمشاركة في سوق العمل، أو مواكبة هذا العالم المتغير من خلال امتلاك مهارات القرن الحادي والعشرين. وعلى العكس من ذلك، فقد ظهرت العديد من الممارسات في المجتمع تضر بالعملية التعليمية؛ اعتقاداً منهم بأنه الطريق نحو النجاح، ونتيجة لعدم ثقتهم بالنظام التعليمي، وقد تصدَّرت قائمة السلوكيات الأكثر شيوعا وفسادا بالتعليم؛ لأنها تخالف كل الأنظمة والقوانين ويتشارك الجميع في ممارساتها طمعاً في تحقيق النجاح على حساب القيم والمبادئ ومصلحة الوطن، ربما البعض يعتقد أن رغبته بالنجاح تعذره من الاستناد إلى أية ممارسات حتى ولو كانت خاطئة طالما أنها تحقق له رغباته وأهدافه القصيرة، دون أن ينظر إلى أنَّ أهداف الوطن وغاياته أهم من كل شيء، فهل هذه الممارسات تُحدث لنا تغييرًا في موقعنا من خريطة العالم؟

فدول شرق آسيا عندما فكَّرتْ في تطوير ذاتها وتحقيق التنمية الاقتصادية التي تساعدها على مسايرة العالم؛ لجأت إلى إصلاح التعليم، ومنها كوريا الجنوبية التي تتصدر دول العالم في التعليم، وغيرها من بقية الدول التي أصبحت منتجاتها التقنية جزءًا رئيسيا في السوق العالمية، هذا لأنهم فكروا بجدية في بناء الأجيال التي تقدر معنى الوطن وتعمل بإخلاص وأمانة، بحيث يصبح هذا المتعلم عضو فاعل في المجتمع، ويسهم في تقدم وطنه، ويشارك بفاعلية نحو التقدم والابداع.

هذه هي الصورة الحقيقية لواقع التعليم اليوم في دول العالم، في حين أننا نسعى لترقيع هذا القطاع بأفكار وممارسات لا تسهم في أحداث ذلك التطور المناسب، بل على العكس من ذلك أصبح  مجالاً خصبا للفاسدين والراغبين في جمع المال من النفوس الضعيفة، في ظل توفر بيئة خصبة لانتشار هذه الآفات الضارة بالبيئة العُمانية، مما يشكل خطراً على الوطن، لأنها تكسب أجيال العديد من القيم السلبية من التعليم، وتأتي في مقدمتها الدروس الخصوصية، التي أصبحت اليوم آفة وجريمة ترتكب بحق التعليم، وتؤثر على نتائج التعلم ومدى فهم الطلبة، ولكنها من الناحية الاجتماعية، فهو مصدر رزق ثانوي لبعض المعلمين الذي يسعون من خلال بث أفكار إيجابية عن أهمية الدروس الخصوصية من خلال اقترابهم من الطلاب، وغرس هذا التفكير بأنهم بحاجة إلى دروس تقوية تقوده إلى تحقيق أحلامه وأحلام عائلته في النجاح والتفوق، مما يعزز ذلك أيضا عدم ثقة أولياء الأمور في النظام التعليمي في تحقيق أمنياتهم وخوفهم على مستقبل أبنائهم يدفعهم إلى التضحية بالعديد من احتياجاتهم من أجل توفير مبالغ الدروس الخصوصية، مما يسهم في الابتعاد كثيراً عن الغايات الأساسية من التعليم، ويركز على الأهداف القصيرة، ويسهم في بناء أجيال تعتمد على الآخرين في القيام بمهامها، فهنا لا يصبح للعقل فائدة، ولا للتفكير مجال للممارسة، فأين نظريات التعلم الحديثة التي تركز على بناء الطالب للمعرفة، وبناء قدراته العقلية من خلال التفكير في المشكلات التي تواجه، أو التحديات والمواقف العلمية التي تتطلب منه التفكير في معالجتها والاعتماد على نفسه في تعلمه، أننا بذلك نسهم في اغتيال العلم القائم على بناء العقول.

تُصاغ العديد من السيناريوهات حول قضية الدروس الخصوصية؛ حيث يُبرِّر أولياء الأمور أن ضعف أداء المعلم في مادة علمية يدفعه للجوء إلى الدروس الخصوصية، والبعض يذكر أن ضعف أبنة في المادة هو ما يدفعه نحو البحث عن الدروس الخصوصية، والبعض عدم ثقته في المنظومة التعليمية هو المبرر الرئيسي لذلك، ويعتقدون وهماً أن هناك ارتفاع مستوى أبنائهم بالدروس الخصوصية، دون الإدراك إلى العديد من الجوانب السلبية لهذا النوع من القضايا؛ حيث إنها أصبحت ذات انتشار واسع وصل إلى مراحل متقدمة ويحتاج إلى تدخل قانوني لإيقاف هذه المهزلة التعليمية، حيث إنَّ دخل هذه الدروس يفوق دخل المعلم الذي يتقاضاه من المؤسسة الحكومية، ووصل الأمر إلى أن أصبحت تجاره رابحة من جراء عدم اعتماد الطالب على نفسه في المذاكرة، وأصبح الطالب عبارة عن الآلة يتلقى كل شيء من غير جهد يريد أن يبذله، وتحولت بعض الشقق السكنية إلى قاعات تدريسية، والبعض يتم في المنازل من خلال زيارات مستمرة مقابل مبلغ مادي مرتفع، وهذا أمر له العديد من الإشكاليات الاخلاقية مع الاستمرار في ذات النهج؛ لذا فإنَّ الرسالة التي أود إيصالها لولي الأمر أنَّ ابنك قادر على القيام بمسؤولياته وواجبة في التعليم، ولكن يحتاج إلى إعطائه الثقة بنفسه على تخطي كل الصعوبات، وأن تعاونك ومتابعتك له هو طريقه نحو النجاح، خاصة مع ظهور ظاهرة الترف والمظاهر والتي اعتبرت أن الدروس الخصوصية جزء من  التطور المادي والاجتماعي، ولا يدرك أنه ينتج طالب معاق فكريا ومبرمج جسديا على الاعتماد على الآخرين.

نعم.. إنَّها جريمة عندما يغتال مستقبل وطن على أيدي مجموعة من الطامعين في المال، جريمة عندما يتم الإيعاز إلى أذهان الطلاب بأنهم بحاجة إلى دورس خصوصية لتقوية مستواهم في التعليم، جريمة عندما يقوم بها بعض المحسوبين على المؤسسة التربوية، جريمة عندما تغلق العقول ويضرب بنظريات التعلم الحديث عرض الحائط، هي جريمة عندما يقصر بعض المعلمين في واجبهم الوظيفي في الحصة الدراسية، ويركز على حصص الدروس الخصوصية في الفترة المسائية، جريمة عندما يصبح التعليم سلعة للبيع والشراء.

Hm.alsaidi2@gmail.com