من وحي الذاكرة (7)

 

 علي بن كفيتان بيت سعيد

انتهت الإجازة ولابد من العودة لمُعسكر الفرقة لاستئناف الدراسة هكذا هو الحال في تلك الأيام الصعبة باتت أمي وجدتي مقتنعتين أكثر بعودتي رغم دموعهما التي انهالت بغزارة عندما ودعتهما ولكن لا زال هناك من كان ينتظرني لأودعه ولكنها اختارت أن تذهب بعيدًا وتودعني على الرابية إنّها أختي الكبرى – حفظها الله – كان وداعًا حميميًا ولكي لا أبكي ركضت من حضنها مسرعاً حتى اختفيت ثم جلست وأطلقت العنان لدموعي.

كان عليَّ أن أمشي لمسافة تزيد على العشرة كيلومترات بين الأحراش والجبال وفي الطريق وجدت طلبة آخرين لكن لم نكن معًا كل واحد على مسافة كبيرة عن الآخر، وفي وسط الطريق صادفت ثلاثة رجال مُسلحين ببنادق الكلاشنكوف ذوي قامات فارعة ووجوه مُشرقة لبسهم متناسق. مضى اثنان منهم في طريقهما بينما انتظرني ثالثهم فسلَّم علي بحنية وكان يعرفني ويعرف أسرتي وجلس معي على جنب الطريق تحت شجرة الميطان التي لا تزال الشاهد الوحيد على لقائنا شربت من عنده بضع رشفات ماء بارد من قربة ماء كان يحملها ثم حدَّثني عن الثورة ولم أفقه الكثير مما قال وبعدها سألني عن المدرسة فأخبرته بحرارة وبحماس طفولي عفوي عن المُدرس المصري، والمناهج القطرية في تلك اللحظات رفع عينيه للسماء وقال لي (يابُني نحن نُحارب من أجل ذات الهدف لكي نرفع الظلم، ونزيل الجهل عن المُجتمع) وفي تلك اللحظات قام وأهداني عصا مُزينة بنقوش نارية من شجرة الميطان فذهبت أنا لمدرستي وذهب عدنان مقتفياً أثر صاحبيه وأذكر أنّه نبهني لعدم ذكر اسمه لأحد وهذه هي المرة الأولى التي نقضت فيها وعدي له – رحمه الله-.

علمت لاحقًا بأنَّ هذا هو أحد رموز الثورة في تلك المرحلة وبأنه مطلوب بشكل رئيسي ومرت الأيام إلى أن كتب الله علي أن أكون راجعاً من المدرسة على ذات الطريق وفجأة هطلت أمطار غزيرة فاضطررت للركض إلى مخيم لمربي الإبل في وسط الطريق هناك استقبلتني امرأة لطيفة ورحبت بي وادخلتني إلى مخيم فيه امرأة أخرى ومعها حسب ما أسعفتني به الذاكرة بنتان وفي حجرها رضيع حديث الولادة عرفت من البنات أن اسمه (علي) كالعادة كان الكل مشغول بحماية الإبل في مثل هذي الظروف قضيت ذلك النهار معهم، وعندما خفت الأمطار ذهبت فتبعتني أم الولد وقالت لي انتبه يابني أن تذكر لأحد بأنك وجدتنا وخاصة المولود فوعدتها بعدم البوح بذلك لأحد ولكن الأفكار باتت تتجاذبني بقوة وزاد الفضول في نفسي لمعرفة سبب الطلب الذي طُلب مني للمرة الثانية في قضون بضعة أشهر.

كان لدي مخزن أسرار لا يبوح لأحد إلا لإنسان واحد في هذا الكون إنها جدتي – رحمها الله - وفي ليلة مقمرة وأنا على حجرها وهي تمسح على رأسي ونحن في مصيفنا المعتاد حيث ينام الجميع في الخارج على أصوات النانا الشجية وهمهمات الرجال على النار المُتقدة سالت جدتي بكل هدوء – من هو عدنان؟ صمتت قليلاً وقالت – أين وجدته؟ قلت لها قبل عدة شهور وأنا في طريقي للمدرسة ووصفت لها الرجل ولطفه معي – فقالت الجدة إنه واحد من بقايا الثوريين الأحرار في هذه الجبال.

في الصف الثالث صار عندي وعي أكبر بطبيعة هذا الصراع الذي يدور في الجبال، وعرفت كذلك بأنّ جيش السُّلطان لديه توجيه بترغيب النّاس للانضمام الى قافلة النهضة بعيدًا عن أي تصفية جسدية للثوار مما حدا بالكثيرين منهم للعودة والانضمام للجيش عبر قوات الفرق الباسلة ولا شك أنّها معادلة صعبة أن تتخلى عن ما كنت تؤمن به لسنوات طويلة وقاتلت من أجله وتتجه للثكنة المواجهة. ولكن السلطان بعث بما يكفي من الرسائل للنّاس حول النية الصادقة والمخلصة لتحرير المجتمع من الجوع والجهل والمرض وكان ذلك يحدث كله معًا على أرض الواقع فالمعسكرات باتت تعج بالمحاربين الريفيين وفي وسط تلك المعسكرات نصبت خيام المدارس والعيادات الطبية المتحركة بينما تقوم الطائرات العمودية برحلات دورية للتجمعات السكانية لإمدادهم بالماء والغذاء وحتى الكساء.

مرت الأيام وانتقلنا من خيمة مدرسة المعسكر لمدرسة مبنية بالمواد الثابتة في الخارج، وحفرت القوات المسلحة بئر مياه بالقرب منّا وتغير كل شيء خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات، وزار جلالة السلطان - حفظه الله - المنطقة وأذكر أنها كانت الزيارة الثانية لمنطقتنا حيث كانت الأولى ونحن لا زلنا في الخيمة حيث دخل جلالته المدرسة وكانت هي المرة الأولى التي أراه فيها كانت عينيه تنطق بالحُب والوفاء لشعبه كان رحيمًا، وشجاعًا، وحليمًا، وحازمًا وبعد زيارته تلك بنيت لنا المدرسة الجديدة وزاد عدد المدرسين والطلبة ومن ثم انضمت البنات لنا في السنة الخامسة.

عقب عدة سنوات نقل لنا خبر وفاة عدنان كم كان ذلك محزناً للجميع بما فيهم المحاربون وسألت نفسي لماذا لم يعد الرجل عندما عاد الجميع؟؟ رحم الله جميع من قضوا في هذه الحقبة – وأطال الله في عمر جلالة السلطان – حفظه الله – ونسأل الله أن يمن علينا بنعمة الأمن والاطمئنان.

 حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية ,,,

 

alikafetan@gmail.com