ما قالته لي العصفورة هذا الصباح!

 

علي بن سالم كفيتان

 

كنت أتململُ في الفراش، فأطلّت عليّ العصفورة التي لم تزر نافذة غرفتي منذ عام، وقد ظننتها غاضبة عليّ لأنني انشغلت عنها ولم أضع لها الطعام اليومي قبل ذهابي للدوام كالعادة، وقلت في نفسي ربما أخطأ صياد وأصابها رغم صغر جسدها، وربما التهمها صقر جائع، لكنني لم أجد آثار ريشها ولا بقايا دمائها البريئة على شرفة نافذتي، فقلتُ في نفسي ربما هاجرت لوطن آخر باحثة عن شغف جديد.

المهم أنني سمعت زغاريدها اليوم تعود إلى مسمعي لتوقظني من النوم مبكرًا. انتفضت من الفراش وفتحت الستارة.. إنها هي عصفورتي القرمزية الجميلة تدق بمنقارها برواز النافذة وتزغرد بشكل هستيري. في العادة، استمتع بالنظر إليها من خلف الزجاج وهي تتناول الحَبَ، ثم تذهب وتغيب لبضع دقائق لتعود، فأنا أراها وهي لا تراني، رغم أن مقعدي ملاصق للنافذة، ولا تفصلنا سوى بضع إنشات. كم كنت استمتع بهذا المنظر كل صباح وأنا أحزم أمتعتي للذهاب إلى العمل، تكون هي قد ذهبت قبلي، وصار هناك زحام عصافير جديدة على ما تبقى من الحَب وإناء الماء الفخاري الصغير.

أمام إلحاحها ونقرها المُتكرِّر وصوتها الشجي، فتحتُ النافذة في اليوم التالي. لم تهرب كما كنت أتوقع؛ بل دَنَت مِنِّي وقفزت على كتفي وحدثتني أن غيابها كان بسبب ذلك الغراب الذي صار يُلاحقها ويقتل صغارها ويُخرِّب عشها؛ فهاجرت إلى التخوم البعيدة باحثةً عن عش آخر وصحبة جديدة، فوجدت امرأة ريفية تهتم بقطيع من الأبقار وبضع شياهٍ اعتادت أن تضع صدقة الطير في كل صباح، وخاصة في الفصول الأكثر حرًا والأشد برودة. أخبرتني أنها وجدت ملاذًا آمنًا من هجمات الغُراب اللعين؛ فوضعت بيضها على عتبة منزل تلك الريفية المهيبة التي تتفحص كل يوم العش لتتأكد من سلامة الفراخ، الذين كبروا في كنف رعايتها الاستثنائية، وقالت لي: بعد أن طارت بناتي ليكتشفن حياتهن الجديدة ويعدن دورة حياتنا، تذكرت محبتي التي لم تذبل مع السنين، فأحببتُ أن أودعك وأخبرك بوصيتي قبل الرحيل.

خفضت صوتها ودنت من أذني لتقول "لا تنسوا مجتمع الطيور" وأوصيك خيرًا ببناتي، لا شك أنهن سيأتين إلى هذه النافذة يومًا ليُكملن الحكايات التي لم أحكِها لك، سيبحثن عن صينية الحَب وصحن الماء الصغير، سيشعرن بدفء وجودك الباذخ خلف الزجاج، وأنت ترتشف كوب شاي العسكر المُفضَّل لديك بكل بهدوء، لن يجرؤ الغراب اللعين على الاقتراب من هذا الحمى، والصقر سيحلق بعيدًا باحثًا عن فرائس أخرى لينقض عليهن دون رحمة، وسينتزع أحشائهن تاركًا الريش للريح وللبنات الريفيات المُتجوِّلات في المرعى خلف قطعانهن، فهن يستمتعن بجمع ريش العصافير وأزهار الربيع، وبحلول المساء سيكون ريش أبناء جلدتي زينة في شعور بناتكم.

أكملتْ عصفورتي المتشبثة وصيتها لي قائلةً: أرجو أن تبحث عن بناتي إن ضللن الطريق إليك، فلونهن يُشبه لوني، وزغاريدهن عذبة كالتي عودّتُك سماعها كل صباح منذ أمد بعيد؛ فالمرأة الريفية رحلت منذ بضعة شهور، وأبناؤها باعوا القطيع وتقاسموا التركة وهدموا كوخها الصغير ليبنوا على أنقاضه قصرًا منيفًا بشرفات وإطلالات زجاجية تستقبل نسمات الغيم القادم من عمق المحيط، فلم يعد الرذاذ يجد الوجوه التي اعتادت تجاعيدها على امتصاص المطر، ولم تعد تتجمع القطرات على لحى الرجال ومفارق النساء وتخضب أقدامهم الحافية بالتراب الأرجواني والعشب الأخضر القادم من الجنة، هؤلاء الذين لا يأبهون بالبلل وهم يبحثون بحذر عن قطعانهم الذائبة في الضباب مستمتعون بجمع الفطر من أكوام النمل الأبيض النامية على جنائز الأشجار الهالكة.

سكنتْ العصفورة المسكينة بعد هذا الحديث الطويل، ثم تنهدت وأطلقت العنان لدموعها، ونكّست رأسها، وقالت قبل الوداع "أبلغ بناتي ما سمعت وأقرئهن مني السلام فإني راحلة".