النظرة الأحاديَّة

 

 

هلال الزَّيدي

البشرُ -وحسب طبائِعهم- يختلفون في تقديرِ الأحداث؛ فلكلٍّ بيئة يستمدُ منها أحكامه على العِبر التي يُصادفها في حياته، وكذلك طريقة تعامله مع بني جلدته؛ لذا فمن الطبيعي أن تجد الاختلاف كبيرا بحسب ما يصل إليه ذلك الفرد من استنتاجات وتحليلات، مع التأكيد على أنه لم يسلم على إصدار حكم "ما" بالنظر من زاوية واحدة ضيقة دون فهم الأسباب التي دفعت بذلك الحدث إلى الظهور والانتشار، وإنما بسط القضية على كافة جوانبها ودراستها بعمق كي لا تتكرر وتخلف وراءها ندبات يصعب محوها على مر الزمن، ومنها تتأثر علاقته بالآخرين الذين يشكِّلون الضلع الموازي لوجوده.

إنَّ التسرع في إصدار حكم معين تجاه قضية ما، يعود إلى ضعف العقل في التفكر والتدبر من أجل التروي في تغيير سلوك أو إضافة قيمة اجتماعية، وبالتالي هنا يتضح عمق تلك الشخصية في تعاملِها اليومي خاصة وإن كانت تتميز بسلطةِ اتخاذ قرار كون المنصب الذي تتربع على عرشه يحتم عليها ذلك، هنا تختلف نظرتها وإحساسها بالمسؤولية، فإن كان شعورها بالمنصب كأنه منصب تشريف فتكون النظرة أحادية الجانب تعتمد على ما يصل إليها عبر "البطانة"، وهنا الاختلاف وارد في هذه البطانة، فهناك الصالح منها وهناك الطالح كذلك، ولعل الوصف الأخير للبطانة يكون دائما ورفيقا لمن رأى المسؤولية حقًّا وتشريفًا لشخصه الكريم؛ لذا ستكون الأحكام التي يتعامل بها ذلك الفرد مبنية على ما تريده البطانة من أجندة، وربما تقود صاحب المنصب إلى نهايته دونما شعور؛ لأنها تتعامل مع الشخوص لمجرد وجودهم فقط، وليس بعطاءاتهم وأفكارهم البنّاءة.

إنَّ التظاهرَ بالمسؤولية بأنها حمل ثقيل، وأعمال يومية لا تنتهي تدفع بصاحبها إلى الصعود إلى السلم دونما الشعور بنوعية وحجم "الدرج" التي استخدمها حتى يصل إلى سدنة المسؤولية، فهنا تجده لا يحس بما حوله حتى يصل إلى مكتبه لتلتهمه الأعمال الروتينية، من توقيع واجتماع وتصفح لهواياته وغيرها، متناسٍ ومتغافل عن أولئك الذين يكوّنون لبنة المؤسسة الذين يعرفون "بالموظفين"، معتمدا على ما يصل إليه من بطانته عنهم وكفاءتهم وقدراتهم، وهذا لا يعني أنه يجب أن يعرفهم جميعا، وإنما عليه أن يتعرَّف عليهم وأن لا يضع حواجز، مكتفيا بما يصله عبر الألسن المجبولة على تغيير الوقائع، فكم من مسؤول يحدد لقاء شهريا مع موظفيه في حالة أن عددهم يتجاوز الخمسمائة موظف؟ فهل يلتقي بأصغر المسميات الوظيفية لمعرفة الواقع قبل أن يلمّع من قبل المدير أو يشمع من قبل البطانة؟

في هكذا وضع تكون الأحكام جائرة في تقييم الموظفين ومعرفة ممن يعمل من أجل العمل وممن يأتي ليعمل من أجل عيون المسؤول التي تتربص به؛ لذا فمسألة الحضور لتقديم الولاء أحد مبادئ التقييم التي تحتم على المسؤول الاعتماد عليها؛ لذلك تختفي الجودة والأفكار البناءة التي تخدم شريحة اجتماعية وتؤدي واجب تلتزم به تلك المؤسسة؛ لذلك تكون الإستراتيجيات الموضوعة مجرد "ديكور" يقدم للمسؤول الأكبر لتلميع مكانة المسؤول الأصغر ويتضح في المشهد أنه يؤدي دوره على أكمل وجه. وفي الجانب الآخر، وفيما يخص النظرة الأحادية التي تودي بمستقبل العديد من الموظفين تتجسد "الأنا" في نفس المسؤول فيقرِّب من يريد تقريبه ويبعد من يختلف معه؛ فالمبدأ الأساسي هو معي أو ضدي.

... إنَّ الاختلافَ مع المسؤول ليس في شخصه وإنما في أفكاره، تلك النظرة التي يجب أن يلتزم بها؛ وبالتالي تجعله جديرا بالمنصب وقادرا على تسيير المؤسسة، وكم من قصة جاءت على لسان عظماء التاريخ في كيفية تعاملهم مع مجريات مسؤولياتهم معتمدين على الوضوح والشفافية التي تساوي بين الجميع، وكلنا نعلم بتلك المقولة التي جاءت على لسان سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما قال: "رحم الله أمرأً أهدى إليَّ عيوبي"، هنا تتجلى لنا الصورة العظيمة التي حقق بها الفاروق العدالة، والتي تشكّل مدرسة فكرية في كيفية التعامل مع المنصب، فلم يقل: "أنا ومن بعدي الطوفان"، لذلك كانت النظرة شاملة جامعة تبنى على مسألة الشورى التي يكون فيها الاتحاد قوة حتى يتحقق الهدف.

ليس من الصحيح أن يتبع المسؤول منهجية شق الصف بين الموظفين عبر استخدام سلوكيات "الوشاية" وهدم السمعة التي تؤثر بشكل جلي على المؤسسة ككل، فمن ترك الفرصة "للقيل والقال" بأن يسود؛ فذلك لا تنطبق عليه صفات القائد الناجح، وحريٌّ بهكذا شخص أن ينتبه لنفسه ويقيّم ذاته، ويستمع للثقات في طرح آرائهم حول إدارته التي يدير بها تلك البيئة صغرت أم كبرت، كما أنَّ الآخرين والمحيطين به عليهم أن لا ينظروا عبر نافذة مصالحهم في توجيه المسؤول وإرشاده بحسب ما لديهم من وقائع حقيقية وليست وهمية حتى تكون العلاقة حميمية لا مراء ولا مجاملة فيها.

قيل بأنَّ النظرة الأحادية نظرة قاتلة للإبداع مُحطِّمة لتحقيق الأهداف السامية؛ فحتى لا يكون المسؤول أحاديَّ التفكير، عليه بناء مجتمع وظيفي يسوده الود والتكاتف، لا التربص واستغلال الأخطاء لتكون شمّاعة التقصير؛ لأنَّ التدمير الداخلي للسمعة المؤسسية أصعب من دمار السمعة خارجيا؛ "فأهل مكة أدرى بشعابها"، لذا يكون الموظف ذا مصداقية عند الآخرين إذا نقل ما يعكر صفو مسار مؤسسة ما، وهذا سلوك منافي للقيم الخلاقة، ويتخذه ثلة من الأفراد لنصر ذواتهم المهشمة جراء سلوك ذلك المسؤول.

--------------------------

همسة:

"يا أيها المسؤول، انزل وتجول في أروقة مؤسستك، ستكتشف الفارق بين ما تسمعه وبين ما تراه؛ فبناء المؤسسات يحتاج لشكيمة قوية في اتخاذ قرار صائب، لا قرار يُملى عليك، لمجرد أنه ينفذ مصالح شخص ما. وإذا أردت خبزا عليك بقصد الخباز لا النجار، لأن لكل مهنة أصحابها".

 

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com