سمهرم.. ميناء ظفار التاريخي لتصدير اللبان

 

عبدالنبي العكري

أثناء زيارتي لمحافظة ظفار في مَوْسم ما يعرف بـ"الخريف"، أي موسم الاصطياف، قرَّرتُ زيارة بعض المعالم الأثرية لظفار. ومن هنا، كانت زيارتي لميناء سمهرم التاريخي في خليج أو ما يعرف بـ"خور روري"، والذي كان أشهر ميناء لتصدير اللبان في جنوب الجزيرة العربية طوال ستة قرون. الواقع أن سمهرم عبارة عن مُجمَّع كبير يضم ميناء للسفن الشراعية على خور ريرد، وأسواقاً ومساكن ومعبداً، فهو مدينة متكاملة واختيار الموقع ليس عبثاً. فهو يقع على حافة هضبة ضخمة مُمتدَّة في البحر ومُرتبطة مع البر الأساسي. أما مدخل الخليج على البحر، فتحميه سلسلة جبلية بها فتحة تسمح بمرور السفن، لكنه ومع مرور الزمن فقد تشكل حاجز رملي يمنع مرور السفن، ولا ندرى السبب الذي منع سكان سمهرم من صيانة المدخل لإزالة الحاجز الرملي والذي تسبَّب في إغلاق الميناء، ومن ثم انهيار سمهرم. مجمع ميناء سمهرم مبني من الحجارة الجيرية المتوفرة في الهضبة أصلاً، ويحيط بها جدار بلغ ارتفاعه 8 أمتار، ولها بوابات ضخمة يتم التحكم بها ويعتقد أنها من خشب أشجار الطريق الموجودة بكثرة في ظفار، وتؤمن الحماية للمدينة من الهجمات البرية والبحرية.

ازدهر ميناء سمهرم حسب المكتشفات الأركيولوجية خلال الفترة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الثالث بعد الميلاد. وقد لعب -إلى جانب الموانئ الأخرى في ظفار؛ مثل: البليد، ومرباط، وحاشك- دوراً تجاريًّا مهمًّا لتصدير اللبان عبر القوافل إلى شبوه ومأرب في اليمن، وصولاً إلى البتراء في الأردن حاليا وبلاد الرافدين، وعبر البحار إلى الخليج ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبية، وشرقاً إلى وادى الإندوس بالهند حاليا، وحتى الصين. وقد أمكن تجميع هذه المعلومات من خلال المكتشفات الأثرية والمراجع التاريخية - خصوصاً اليونانية. وقد بدأت الحفريات الأثرية منذ 1952 من قبل البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان برئاسة ويندل فيليبس المكتشف الأمريكي المعروف، وتوقفت بسبب الاضطرابات ثم استؤنفت عمليات التنقيب في العام 1996 من قبل بعثة إيطالية برئاسة البرفسورة أليساندرا أفا شريني لفترات متقطعة، ثم انتظمت سنويا بدعم من قبل مكتب مستشار جلالة السلطان قابوس الثقافي، ويعود لها الفضل في مكتشفات سمهرم وترميمها بالصورة الحالية، وكذلك التنقيب في المواقع المحيطة ذات العلاقة.

أمَّا المكتشفات -إلى جانب المباني الحجرية والميناء- فتضم ما يدل على العلاقات التجارية مع البلدان التي تتم تجارة اللبان معها؛ ومنها: مصباح برونزي مُجسَّم لوعل من جنوب الجزيرة العربية، خصوصاً ممالك اليمن سبأ ومعين وقتبان وحضرموت، حيث استفاد سكان سمهرم من خبرة اليمنيين في البناء والعمارة في تشييد مدينتهم. كما أن نقوش الكتابة مماثلة لنقوش الكتابة الحميرية في المواقع الأثرية اليمنية واللغة الشحرية السائدة حينها حتى اليوم هي إحدى تفرعات اللغة الحميرية، وقد وجدت عملات معدنية كثيرة (أكثر من 1200) تنتمي لعصور مختلفة، ومنها عملات برونزية تعود للممالك اليمنية، وكذلك عملة عليها نقش الإسكندر الأكبر تعود للقرنين 2-3 ميلادي، ورغم أن إمبراطورية الإسكندر الأكبر لم تصل إلى جنوب الجزيرة، إلا أنَّ عُملتها كانت متداولة على نطاق أوسع. كما وجدت جرارًا من صُنع إيطالي وتماثيل تعود لوادي الإندوس ووادي الرافدين (بابل) ومصر (الفرعونية) من البرونز والحجر الجيري، والخليج (تايلوس).

ويضم مجمع سمهرم معبداً ومذبحًا؛ حيث كانت تُقدَّم القرابين إلى إله القمر سين، حيث كان اللبان يحرق وينتج عنه البخور ضمن طقوس الصلاة. الحقيقة أنَّ عبادة الإله سين كانت سائدة في جنوب الجزيرة العربية حينها. ومن الجدير بالذكر أن اللبان كان يعتبر مادة مُقدَّسة وتحرق في معابد مختلف الحضارات حينها؛ مثل: الإندونيسية، والبابلية، واليونانية، والرومانية، والفرعونية؛ لذلك كان الطلب عليه كبيراً وثمنه غالياً جداً، كما كان حال الحرير المُصدَّر من الصين. واللبان عبارة عن سائل يستخرج من جرح ساق وأفرع شجرة اللبان والمنتشرة في مناطق النجد الفاصلة ما بين الجبل والصحراء في محافظة ظفار في عُمان والمهرة المجاورة في اليمن. ورغم تقلبات الزمان وتراجع دور اللبان في المعابد ومن بعدها الكنائس، إلا أنه لا يزال مادة تجارية وتجميلية وطبية.

وقد أتاح تقدُّم العلم اكتشافَ فوائد عديدة للبان وإنتاج مواد عديدة منه؛ فاللبان المستحلب -أي الماء بعد نقع اللبان لساعات- يُشرَب لمعالجة الأمراض الهضمية، ويُستخرج من اللبان الجيد مواد طبية تستخدم في علاج الأمراض والإصابات الجلدية، كما يستخرج منه العطر بالطبع. سمهرم معلم أثرى جميل ويمكن أن ينشط سياحيًّا وذلك بإزالة الحاجز الرملي في مدخل خور روري، لتمكين السفن السياحية الصغيرة من الرسو في ميناء سمهرم والتنقل ما بين الموانئ الأثرية الأخرى. كما أنه يمكن استخدام اللبان -وهو بدرجات نقاء متفاوتة- في تصنيع مواد التجميل والعقاقير الطبية، والعطور بالطبع.