اللُّحمة الوطنيَّة!

 

سُلطان الخَرُوصي

مع بدايات هذا العقد من الزمن، تواترت أنباء تتحدَّث عن قدوم ربيع عربي، تأمَّلت به شعوب المنطقة إصلاحا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا؛ فجاء المولود المنتظر بكل أزماته ليلقي بعظم ثقله المتخم والمترهل بمفاسد المصالح والحسابات الإقليمية والدولية، فيفرخ واقعه بين أوصال الوطن العربي تشرذم سياسي، وانحسار اقتصادي، ويدق آخر مسمار في نعش اللحمة المجتمعية، فيذكي فيهم حمية الجاهلية الأولى؛ لتعدم العدالة الاجتماعية، وتغيب الأجندة الوطنية من الساحة السياسية، وتتغلغل المحسوبيات والمصالح الشخصية والمذهبية والحزبية والقبلية؛ فيتوشح المشهد برمته نحو غرس النبت الخبيث بما يرهب الناس ويضج مضاجعهم بعصابات ملونة بين المواطنة حينا، وثوابت الدين الحنيف أحيانا كثيرة، وكلاهما براء منهما كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، فأضحت البلاد مرتعاً للضلال يعيث بها المفسدون قتلاً واسترقاقاً للعباد، ويلتهمون حقوق البسطاء والمعدمين فتجر الأوطان نحو مستنقعات ضحلة، ويلقى بإنجازات أبنائها نحو مفترقات طرق مكفهرة بالظلمات بعضها فوق بعض إذ أخرجت يدك لم تكد تراها، وكل ذلك مبني على تعزيز قناعة عدم الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وغرس ثقافة سوداوية لترهل الفساد الكبير بين تلك المؤسسات.

وأمام كل هذا الزخم والضجيج المزعج، والدماء المتناثرة هنا وهناك، وأمام كل الاتهامات البذيئة في حق الوطن والمواطن لانتماءات سقيمة باسم المذهب أو الدين أو العرق أو الحزب أو القبيلة، نجد أن العُمانيين يمثلون نموذجاً رائداً في إعطاء العالم صورة حقيقية لمظاهر التحضر والمدنية؛ فهم بشهادة أقلام خليجية وعربية وعالمية -مستقلة- يملكون استنارة سياسية متوقدة، وفكراً سليماً غير ملوث، وخلقاً نبيلاً استلهموه من السيرة العطرة لنبي هذه الأمة لا من بعض تجار الدين والسياسة وعباد المال، إلا أن المتغيرات السياسية والاقتصادية في المحيط الخليجي وما يشهده الوطن العربي من فوضى عارمة ألقت بضلالها على المشهد العُماني في شكل شذرات مبعثرة حول بعض الدعوات التي تخرج بين الفينة والأخرى، وربما شكل الحراك العسكري الخليجي المباشر في اليمن الشقيق نقطة فارقة في الحوارات والنقاشات التي تحتضنها المجالس العُمانية التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي؛ وعلى رأسها "الواتساب"، وتلك ظاهرة حضارية صحية في تبادل الفكر والمنطق والحجة وقراءة الوقائع وما تفرزه من مؤشرات للمرحلة المقبلة.

إلا أنَّ هذا الحراك الثقافي لابد أن يكون وفق منطلقات مؤطرة بما يحفظ الحقوق والواجبات والأدب، فحينما يخرج منطق الحوار من تبادل الرأي إلى التجريح والتشهير ضد الأفراد أو المسؤولين أو رأس هرم الدولة، فإن ذلك لا يعد من التحضر في شيء، واستثمار مساحة الحرية وفقا للقانون المتاح إلى ما هو أبعد من الخطوط الحمراء فذلك مطية نحو المساءلة والمحاسبة دون التباكي حول ضرورة العض بالنواجذ على مبادئ الديمقراطية التي لم يستوعبها المرء أساسا. ومن هذا المنطق، نجد بعضَ الأشخاص يعشقون السوداوية تجاه وطنهم "عُمان" ويتشبثون بها تشبث الطفل بأمه! فحينما يُطرَح عليه إنجاز مؤسسة ما وينسدل الشرح حول كيف وصلنا لهذا الإنجاز تجده كمن يقول: "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"، وما إنْ تُثار عنده قضية حول تقصير معين من مؤسسة بعينها تجده يضرب أخماسا بأسداس فيقيم الدنيا ولا يقعدها وكأنه خلق ليقول إن حكومتي فاسدة.

وفي الأيام القليلة الماضية، أُثيرت قضية شخصية كان موقعها الحقيقي أروقة المحاكم، لكن وبطريقة أو بأخرى تم استثمارها لتمريغ وجه القضاء بوحل الفساد -وهو ركن الدولة الأول- وتمَّ تسويق ذلك الأمر من أطراف أخرى مادامت تتصيَّد في الماء العكر. ومن جهة ثانية، أعلن البعض طلبه للحماية من الاعتقال أو المساءلة، وكأنه بذلك يضربُ الرُّكن الأساسي الثاني في الدولة وهو الأمن، وكأنه يُشير بذلك إلى بطش هذه المؤسسة القويمة. ومن جهة ثالثة، تمَّ تسويق إغلاق إحدى الصحف عالميا كمؤشر لتراجع حرية الصحافة في السلطنة. والسؤال الأهم في كل ذلك: من هو المستفيد، ومن الخاسر من كل هذه الزوبعة؟ قطعا الخاسر الأكبر هو "الوطن" من مسؤولين وأمنيين وإعلاميين وحتى المتهمين. أما المستفيدُ من كلِّ ذلك فهم الأقزام الذين يتسلقون على أكتاف الشرفاء، فإن كنا ننشد التطور والتحضر ألا ينبغي بنا احترام دستور البلاد ونظمه وقوانينه؟ هل من المنطق أن أنشر غسيل فكري البالي لعموم الناس وأصف الدولة بالفساد أم أنني أًقدم ما لدي للمؤسسات الرقابية والضبطية للتحقيق والتمحيص، فإن لم يأتني الرد قدمت ما لدي للجمهور؟ ثم ما المبرر أن أحور قضية شخصية صرفة إلى رأي عام وأنسف رأس إنجاز الدولة العُمانية الحديثة (القضاء والأمن) بمجرد بعض الكلام الفضفاض؟!

... إنَّ ما يشهده هذا البلد من رخاء ومحبة ووئام ما هو إلا نموذج حضاري نفاخر به؛ حيث بنيت هذه الإنجازات والشواهد بسواعد أبناء عُمان المخلصين الذين يُذعنون الولاء للحياة الكريمة دون أن تأخذهم رياح الغدر والتخوين والاستحقار والاستخفاف؛ فهذه الأرض الطيبة لا تملك تربة خبيثة لتزرع فيها بذور الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، ولا تملك قلوباً موغلة بالحقد والدسائس تتربص للنيل من ولي عهدها أو أبناء جلدتها لاختلافات هزيلة واهنة، كما أنها لا تأوي أشباه الرجال السياسيين الذين يحكمون مصالح الخارج عن مصلحة الوطن، والأهم من ذلك أن لا مكان فيها لتجار الدين الذين يساومون في مزاد الكفر بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، تحل دم المؤمن على أخيه، وهو جُرم مُحرَّم بنص القرآن العظيم وحديث النبي الكريم، فكم تتقاطر الدموع حبًّا وشكراً لله حينما تجد أن عُمان الطاهرة من مسندم الزاهية إلى ظفار الشامخة تلهث بالدعاء على الدوام بأن يحفظ الله الوالد القائد حضرة صاحب الجلالة -أعزَّه الله- وأن يُديم عليه نعمة الشفاء والصحة، وأن تنعم عُمان بالخير والسعادة والازدهار رغم أنوف المارقين.

sultankamis@gmail.com