لا تساوموننا في حُب الوطن

 

 

زينب الغريبيَّة

الوطنُ أغلى ما يملكُ الإنسان؛ فهو المكان الذي ارتبط فيه أي فرد بترابه الذي ارتمى بين أحضانه منذ أول صرخة له تنفس بها هواء الدنيا، وهو المكان الذي يضمُّ كلَّ ذكريات الطفولة، واللمسات الجميلة في حياة كل شخص، وربما تكون لحظات صعبة ماديا أحيانا واجتماعيا أحيانا أخرى، إلا أنها تظل تمثل دائرة الحياة الطبيعية للإنسان بما تحمله -هذه الحياة- للفرد من فرح وترح، ويبقى الوطن الملاذ الوحيد الذي لن نقبل المساوة عليه.

كُلنا نحب الوطن، ولن يُساومنا على حبه أحد، ولكن كل له طريقة للتعبير عن هذا الحب، ومنطلقات يقف عليها ليكوِّن اتجاهاته، فهناك من يربط الوطن بأشخاص، فإن أخطأ الشخص وكأن المؤسسة التي ينتمي إليها قد أخطات بأكملها؛ وبالتالي هذا ينطبق على الوطن فهو قد أخطأ أيضا، وهناك من يفصل كل الفصل بين الوطن وما يجري ويعتبر الحديث فيما يجري -مجرد الحديث فقط- تشكيكا في حب الوطن، فيعتبر الوطن تلك الأرض الجامدة التي تحتوي على التراب والصخور والأشجار والبحار والوديان والسهول دون البشر. وهنا يحدث الخلط.

من يُحب الوطن عليه عدم الحديث فيما يجري من مجريات، وعدم الحديث عن الأخطاء التي تحدث ويقع ضررها على المواطن نفسه، ولا السعي في إحداث تغيير، وفي التنوير البشري الذي يخلق منا وطنا متوهجا بعقوله، وصانعين للفرق الذي سيرتقي بنا، إنما الصمت والاكتفاء بالنظر من بعيد.. هل هذا هو حب الوطن؟ وهل السكوت وترك الرياح لتتحكم في مصائر الركاب هو الصحيح وهو حب الوطن الحقيقي؟!

الصحيح في الأمر -على الأقل من وجهة نظري- أنْ لا نخلط الأمور حتى لا تضيع خيوطها؛ فالمخطئ لابد أن يوقف ويعاقب، أيا كان موقعه وهذا لا يؤثر على سمعة المكان الذي يمثله، فهو لا يمثل إلا نفسه الأمارة بالسوء، بل توقيفه وعقابه يوضح مدى مصداقية الحكومة في تطهير المؤسسات من النباتات السامة، لتحافظ عليها بيئة سليمة نظيفة، وتبقى سمعة المؤسسة ناصعة بذلك، غير خاضعة للقيل والقال والتشكيك من هنا وهناك؛ فهذا قَطْع باليقين، وهنا يحققون حب الوطن من جهتهم، أنيت شوافان وزيرة التريبة والتعليم في ألمانيا، عندما سحبت منها رسالة الدكتوراة عام 2013، بسبب اكتشاف سرقات أدبية في رسالتها التي أعدتها قبل 33 سنة، قدَّمت استقالتها من منصبها، لأنها اقتنعت بخطئها، وأنها بذلك غير مؤهلة لقيادة وزارة، ومن ناحية أخرى لعلمها بأنها ستُزال من منصبها لو لم تفعل، فالقانون سيأتي عليها ويطهر النبات السام، ليحافظ على المصداقية والطهارة، ولم يؤثر ذلك على سمعة وزارة التربية والتعليم في البلاد؛ بسبب خطأ قام به قائد المؤسسة؛ فالخطأ شخصي، والقانون جرى عليه، وهذا يرضي المواطن ويشعره بأن حقه محافظ عليه دون المطالبة به.

والحديث في تحليل الوضع، والسعي نحو إظهار الحقيقة، وإبرازها بعد الوثوق من مدى صحتها، ونشرها بغرض إحداث الوعي بالحقيقة الخالية من العبث يمثل أيضا حبا للوطن، للسعي نحو حل الأمور من بعدها بطريقة لا تسبب قلقلة ولا تنال على هيبة الدولة، وتحقق للمواطن حقه كطرف له أهمية وله احترام لعقله ووجوده، وإظهار الحقيقة وطريقة التعامل معها بالطريقة الصحيحة المنصفة تمثل الضوء الأحمر أمام الشائعات التي تربك المواطنين وتحث الخلل، وتحرك معنى الحب للوطن.

فلا يُمكن لأي أحد أن يُحدِّد ما معنى الحب للوطن، ولا كيف يسلك الشخص للتعبير عن حبه بالطريقة التي يراها والتي تتحدد من فهمه ومنطلقاته، ما لم توضع سياسات عامة تراعي فيها توحيد معنى الحب للوطن، من الجميع من أعلى السلم إلى أسفله، وأعني السلم الوظيفي والإداري للأشخاص المتمتعين بالسلطة وصلاحية توجيه الأمور، أما من الناحية العامة فالجميع مواطنون سواسية لهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات تجاه الوطن ومواطنيه فقط كل من مكانه ودوره.

عندما يتحدَّث المواطن البسيط عن وضعٍ أحلَّ بالمواطنين وأثَّر على معيشتهم أو ضغط على الموطنين ماديا أوغيره، أُتهم بعدم حبه للوطن، وأنه لا يساعد الوطن في أزمته، أيُربط حب الوطن باحتجاج نحو قضية معينة؟ أيشكَّك حينها بوطنيته؟ ألا يجوز أن يُبدي رأيه ويسعى لمعرفة المبرر الذي دَعَا لذلك؟ وأن الجميع كمواطنين على مختلف مستوياتهم ومناصبهم قد تعرضوا لنفس ما يتعرض له، أيُعد صمته وسكوته تعبيرا عن حب الوطن؟!

... يظل الوطن هو ذاك الحضن الذي نشعر فيه بالأمان مهما جارت علينا الأزمان، هو المأوى الذي يقينا شماتة الآخرين؛ فلا يمكن أن يربط حبنا به بمجريات نحن لسنا طرفا فيها، ولا وقوفنا أمام تلك المجريات يجردنا من حبنا له، ولا اعتراضنا للرياح التي ستوقعنا، تعني تخلينا عنه، لن نعلن يوما تخلينا عنك يا وطن، ولن يساومنا على حبك أحد، وسنقف معك ضد من خرج عليك، وضد من تآمر عليك، حبنا لك لا يقاس بصمت ولا كلام، إنما بما نحن مقتنعون به.