ماهية العقل المجتمعي

د. واصل القعيطي

العقل يعتبر الملكة التي يمكن للفرد أن يقوم من خلالها بالحكم على الأمور، أو تلك "الأداة" الفكرية التي يستخدمها المرء للحكم والتمييز بين الأمور، وتقويمها، من حيث خيرها وشرها، وحسنها وقبحها، وصحتها وخطأها... وتتكون هذه الأداة تدريجيا لدى الفرد، منذ ولادته، وتظل تنمو معه، أو تتضاءل حتى وفاته، وتتشكّل من عنصرين أساسيين هما الوراثة، والبيئة أو المحيط ؛ ويدخل في العنصر الأخير كل ما يتلقاه الإنسان من مؤثرات خارجية، منذ لحظة ولادته، بما فيها تربيتـه العائلية والمدرسية وعلاقاته الاجتماعية والمفاهيم والقيم المجتمعية إلخ... أما الوراثة فنقصد بها الخصائص الموروثة من الآباء والأجداد (إلى نهاية غير معروفة) التي تحملها الصبغيات الوراثية (الكروموسومات) بما فيها من جينات تنطوي على برامج محددة تشكل اللغة الإحيائية التي تتحدد بها خصائص كل كائن حي، وإن هذا التفاعل المعقد الذي يجري بين هذين العنصرين الأساسيين (العوامل الوراثية والعوامل البيئية) يتمخض عن تكوين "عقل الإنسان" أو بالأحرى عن "الإنسان ذاته"، في صفاته وخصائصه، ولاسيما في أدوات تفكيره وبالتالي سلوكه بوجه عامّ .

العقل المجتمعي" ذاكرة المجتمع وهويته

  إذا أفترضنا إن هناك "عقلا مجتمعيا لا شعوريا" يتكون لدى أي مجتمع نتيجة تراكم المجريات التي مرت على المجتمع خلال صيرورته التاريخية والمجتمعية، أي تشكله الهيكليّ أو البنيويّ، باعتباره مجتمعا متميزا، لذلك فإن كل مجتمع يحمل في طيات كيانه (أو عقله) قيما وأعرافا وقواعد ومعايير متميزة تشكل خصائص ذلك المجتمع، وقد يعترض على هذه الفرضية/ النظرية الخاصة بالعقل المجتمعيّ بأن العقل ميزة خاصة بالإنسان دون غيره، ونابعة من "شخصيـته"، فنقول: إننا نفترض كذلك أن للمجتمع "شخصية معنوية" أو شخصية اعتبارية تشبه إلى حد بعيد الشخصيات الاعتبارية التي تكـتسبـها الجمعيـات والمؤسسات والشركات التي يؤلفها الأشخاص الحقيقيون. وهي لا تختلف عن الشخصية الاعتبارية التي تكتسبها تلك الهيئات إلا من ناحية كونها موجودة بحكم الواقع لا بحكم القانون، وهي في طريقها لاكتساب الوجود القانونيّ، أو بالأحرى قد اكتسبت الوجود القانونيّ أحيانا، وقد يقال إن للإنسان ذاكرة تـشكل الجانب الشعوريّ أو اللاشعوريّ لعقله الذي يشكّل شخصيته المتميزة، فكيف يمكن أن نتصور أن للمجتمع ذاكرة  يختزنها عقله المزعوم؟ فنقول:إن للمجتمع ذاكرة أيضا، بل إن ذاكرة المجتمع أقوى آلاف المرات من ذاكرة الإنسان العاديّ، لأنها تحمل جميع ما مر بالمجتمع من أحداث وتجارب، منذ أقدم عصوره حتى اليوم، بل أكثر من ذلك، إنها تحمل نتائج الأحداث التي لا نعرف عنها شيئا، لأنّها ضاعت في بطون التاريخ غير المسجل وغير المعروف، وإذا علمنا بأن معظم تاريخ البشرية مجهول، وأن معظم تاريخ أي مجتمع ضائع، فينبغي أن نعلم كذلك أن ذاكرة المجتمع تحمل جميع هذه الحلقات الضائعة. لذلك علينا أن نـحلـل ذاكرة المجتمع هذه لعلنا نتوصل إلى تلك العناصر الضائعة من تاريخ البشرية، فهناك آلاف التقاليد والأعراف والقيم والمعتقدات التي يحملها كل مجتمع لا تزال مجهولة الأصول التاريخية؛ بل يذهب علماء الأنثروبولوجيا للبحث عنها لدى الشعوب البدائية باعتبارها تمثّل فجر التاريخ البشريّ، وقد يقال إن للإنسان عقلا يميّز به بين الخير والشرّ والصالح والطالح، ويعبر عنه في كل تصرفاته، فبأي وسيلة يميز "العقل المجتمعيّ" بين الخير والشرّ والحسن والقبيح، أي كيف يعبر عن نفسه؟ فنقول: إن للمجتمع كذلك هذا العقل المميز،ويعبر عن عقله ذاك عن طريق "خلاياه الحية"، وهم الأفراد المكونون لجسمه وكيانه، الناطقون باسمه، والمتحدثون بلسانه، والمدافعون عن قيمه وأيديولوجيته، فهم ينظرون إلى الأشياء بعقل مجتمعهم ذاك، ويميزون بين الخير والشرّ والصالح والطالح والحسن والقبيح استنادا إلى ما يراه عقل ذلك المجتمع. والمفارقة الصارخة، المضحكة المبكية، إننا جميعا ضحايا ذلك العقل الجبار والحاكم المطلق، حينما ندافع عن قيمنا وتقاليدنا وتراثنا ومعتقداتنا، بل حتى عن آمالنا وتطلعاتنا، إذ نتصور أننا نعبر عن آرائنا وأفكارنا، وفي الواقع نحن نعبرعن الآراء التي تدور في عقل ذلك المجتمع، إذ يفرضها علينا فرضا من حيث لا ندري ولا نشعر، ولئن قلنا إن العقل البشريّ ما هو إلا المحصلة النهائية للعوامل الوراثية والعوامل البيئية، فإن العوامل الأخيرة ما هي في الواقع إلا العقل المجتمعيّ الذي يغذي الفرد منذ طفولته بإيديولوجيته ومفاهيمه وقيمه، لذلك ينشأ الفرد خاضعا لتلك المفاهيم والقيم، ونادرا ما يتساءل عن صلاحيتها وهويتها وعقلانيتها وجذورها، وهنا يدخل دور "العقل الفاعل"، حينما يشرع بهذا التساؤل في مقابل "العقل المنفعل" الذي يخضع للعقل المجتمعيّ دون أي اعتراض.

نحو إرساء نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل

 الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ؛ وبعبارة أخرى إنه : "الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس، فالعقل المكون، هو: "مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالنا،" وهي على الرغم من كونها تميل إلى الوحدة، فإنها تختلف من عصر لآخر، كما قد تختلف من فرد لآخر، فإذا تحدثـنا عنه بالمفرد (العقل)، فيجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وفي زمننا"؛ وبعبارة أخرى إنه "منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تعطى لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة.ومع أن هذه التعريفات قد تكون مقاربة، بعض الشيء، لمفهوم العقل المكون الفاعل والعقل المكون السائد، إلا أنني وجدتها غامضة، وربما تؤدي إلى الخلط بين هذين المفهومين، فنحن حين نفكر أو نتعامل مع الآخرين، أو نتخذ قراراتنا، نضع غالبا في إعتبارنا، شعوريا أو لا شعوريا، المستلزمات والقيّم التي يفرضها المجتمع، والتي نخضع لها عادة أو نحترمها في الغالب، شئنا أو أبينا، وهي متغيرة بتغير الزمان والمكان.وفي هذا السياق، فإن المجتمعات تتفاوت في مدى فرض تلك القواعد واحترامها؛ فكلما ارتفع المجتمع في سلم التطور والتقدم والديمقراطية، بالمعنى الحديث، منح الطفل قدرا أكبر من الحريـة والاختيار، وكلما انخفض في ذلك السلم، كان العكس صحيحا. ومع مراعاة النتائج الإيجابية والسلبية لهذه الحريـة، وتفاوت الأفراد في الاستفادة منها أو إساءة استعمالها، فإن نتائج الأبحاث النظرية والعلمية الحديثة رجحت أن منح الطفل قدرا معيـنا من حريـة التصرف -أي استخدام عقله الفاعل- المصحوبة بحسن التوجيه والـتـثـقـيف والتعليم دون ضغط أو تلقين، يؤدي، بالنسبة للأغلبية العظمى من أفراد المجتمع، إلى بناء شخصية الفرد، وحفز قدراته الذاتية للخلق والإبداع.

 وعلى صعيد المجتمع العربيّ، فقد تعودنا منذ نعومة أظفارنا الخضوع لـ"العقل المجتمعيّ"، أو بالأحرى تعزيز عقلنا المنفعل على حساب عقلنا الفاعل. وذلك أسفر عن إنشاء جيل واهن قلما يحقق منجزات كبيرة، سواء على الصعيد الشخصيّ، أو على الصعيد المجتمعيّ، والسبب في ذلك، إن الضغط المجتمعيّ والسياسيّ والإعلاميّ الذي يتعرض له الناشئ في مختلف مراحل حياته، يؤدي إلى قتل روح الاستقلال والتفتح والإبداع، وهذه هي الخطوة الأولى التي يجب أن نهتم بها لدى بحثنا في تحرير العقل العربيّ لتحرير الإنسان العربيّ (وأحدهما يرتبط بالآخر ارتباطا عضويا)، وأعني التربية أو التعليم القائم على تشجيع إعمال الفكر وحفز القـدرات الإبداعية في مختلف المراحل، بدلا من التلقين والحفظ والتقليد.. وإن حصيلة هذه الموازنة الصعبة والمعقدة، والتلقائية أحيانا، هي التي تحدد وتقرر مدى التزام الفرد اتباع قواعد "العقل المجتمعيّ"، وبالتالي مدى تغلّب العقل المنفعل على العقل الفاعل، أو ضمور العقل الفاعل لمصلحة العقل المنفعل، وفي الأحوال العادية فإن العقل المنفعل هو الذي يكسب هذا السباق.

 

[email protected]