فوزي عمار
لماذا نخوض النقاشات لا بحثًا عن الحقيقة؛ بل بحثًا عن الانتصار؟ كان هذا السؤال هو الذي طرحه الفيلسوف الألماني آرثر شوبناهور في كتابه "فن أن تكون دائمًا على صواب".
ففي عالمنا اليوم، حيث تتدافع الآراء وتتصادم في كل مكان، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى جلسات العمل والعائلة، ثمة حقيقة مزعجة يطرحها الفيلسوف الألماني: نحن لا نبحث عن الحقيقة عندما نتحاور، بل نبحث عن الانتصار فحسب. هذا الكتاب الذي كتبه قبل قرنين من الزمان، يبدو اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى.
يكشف شوبنهاور أن العقل البشري في الجدال لا يعمل كباحث عن الحقيقة، بل كمحامٍ بارع يدافع عن موقف مسبق.
هذه الفكرة التي بدت جريئة في زمنه، تجد اليوم تأييدًا في علم النفس الحديث عبر مفهوم "التفكير المعلل"؛ حيث نستخدم قدراتنا العقلية ليس لاكتشاف الحقيقة؛ بل لتبرير ما نؤمن به مسبقًا. فكم مرة رأينا أنفسنا نلتقط الحجج التي تدعم موقفنا ونهمل تلك التي تنقضه؟ إنه الانحياز المعرفي.
الحيل الجدلية التي عددها شوبنهاور ليست مجرد حيل لخداع الآخرين، بل هي في الحقيقة أدوات تكشف كيف نخدع أنفسنا أولًا. خذ مثلًا حيلة "إغضاب الخصم"، تلك الآلية التي نلجأ إليها عندما نثير غضب الطرف الآخر، فنعطّل بذلك قدرته على التفكير المنطقي.
هذه ليست مجرد خدعة؛ بل هي استغلال لطريقة عمل الدماغ البشري، حيث يتعطّل الفص الجبهي المسؤول عن التفكير المنطقي عندما تنشط اللوزة الدماغية مركز الانفعالات.
لكن شوبنهاور يذهب أبعد من ذلك، فهو يرى أن النقاش ليس مجرد تبادل أفكار، بل هو في الحقيقة معركة على الهيمنة والهيبة الاجتماعية.
كم من مرة رأينا شخصًا يعلن انتصاره في نقاش ما رغم خسارته الحجة؟ هذا بالضبط ما يتحدث عنه شوبنهاور عندما يوضح أن الحقيقة قد تهزم في ساحة الجدال أمام خطاب أكثر تأثيرًا أو أكثر دهاء. إنه نفس ما أكده لاحقًا عالم الاجتماع الأمريكي الكندي إرفنغ غوفمان عندما وصف الخطاب البشري بأنه ليس وسيلة لنقل الأفكار بقدر ما هو عرض للهيمنة والقوة.
في زمننا هذا؛ حيث أصبحت الحقائق قابلة للتشكيل والتعديل حسب الرغبة، وحيث يمكن أن تتحول الأكاذيب إلى حقائق بمجرد تكرارها، يأتي كتاب شوبنهاور ليس كدليل لخداع الآخرين، بل كتحذير من أننا جميعًا نقع ضحايا هذه الآليات دون أن ندري. إنه يذكرنا بأن ساحة الجدال مليئة بالألغام النفسية التي يجب أن نكون واعين لها.
الدرس الأهم الذي يقدمه شوبنهاور ربما يكون هو أننا يجب أن نكون حذرين حتى من جدالنا الخاص، فقد نكون أول ضحاياه؛ ففي عالم أصبحت فيه القدرة على الإقناع أهم من الحقيقة ذاتها، يصبح فهم هذه الآليات أشبه بسلاح نقدي ضروري للبقاء. كما إننا نتعلم قوانين المرور لتجنب الحوادث، علينا أن نتعلم قوانين الجدال لنحمي أنفسنا من الخداع.
شوبنهاور لم يكتب كتابه ليعلمنا كيف نغلب الآخرين؛ بل كتبه ليعلمنا كيف لا نغلب بأنفسنا. في النهاية، ربما يكون أعظم انتصار هو أن نعترف بأننا لسنا أبدًا على صواب كما نعتقد.
في الختام، يذكرنا شوبنهاور بأن الحياة ليست محكمةً تحتاج إلى محامين أذكياء، بل هي رحلة بحث مشتركة عن فهم أعمق لأنفسنا والعالم. ربما تكون أعظم حكمة نستقيها من كتابه هي أن "الاعتراف بالجهل بداية المعرفة"، كما قال سقراط من قبله.
العالم الحديث بحاجة إلى إعادة اكتشاف "أخلاقيات الحوار" التي تحدث عنها فلاسفة من ثقافات مختلفة، من سقراط إلى كونفوشيوس؛ فالحكمة لا تكمن في إثبات أنك على حق، بل في إدراك أن الحقيقة قد تكون أكبر من أن يحوزها طرف واحد.
وقبل كل هذا ما أجمل الآية الكريمة في هذا الصدد التي يقول فيها عز وجل " وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف: 54) صدق الله العظيم.
وتبقى الكلمة الأخيرة للقرآن الكريم: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125)؛ ففي الجدال بالتي هي أحسن خلاصة الحكمة كلها.