عبيدلي العبيدلي
يغلب على معالجات الأدبيات التي تناولت جرائم الفساد في المنطقة العربية التركيز على مظاهرها السياسية، ومن نماذجها ما نقله الكاتب مولاي المصطفى البرجاوي، عن الباحث أحمد أبو دية، الذي يحصر تلك المظاهر في مجموعة من السلوكيات مثل "الرشوة، والمحسوبية، والمحاباة، و الواسطة، نهب المال العام، والابتزاز، وغسيل الأموال". ورغم أهمية هذا الحصر لتلك الأنواع، لكنها تبقى بعيدة عن أكثرها خطورة، وأشدها فتكاً بهياكل المكونات الرئيسة لأيّ مجتمع.
بالقدر ذاته نشاهد تركيز بعض الكتابات الأخرى على الجوانب الثانوية التي تهتم بانعكاسات تفشي ظاهرة الفساد على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، حيث يقود الفساد، كما تذكر بعض تلك المصادر، إلى "خلخلة القيم الأخلاقية والى الإحباط وانتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع، وبروز التعصب والتطرف في الآراء وانتشار الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص".
ورغم أهمية مثل تلك الاجتهادات، وضرورة الأخذ بما تتقدم به من توصيات، فهي من شأنها محاربة بعض أنواع الفساد، لكن يغيب عنها، بشكل مباشر أو غير مباشر، التركيز على تلك التي يمكن اعتبارها الأكثر خطورة من بينها.
على أن ما ينبغي التوقف عنده عند الحديث عن معالجة سياسات مأسسة الفساد التي باتت تتسرب إلى عقول نسبة لا يستهان بها ممن يتبؤون مراكز قيادية في إدارات صنع القرار السياسي في البلاد العربية، جراء تأثرها من الإفرازات السياسية المرافقة لتفشي سلوكيات الفساد، هي تلك التراكمات السلبية غير الملموسة في مراحلها البدائية، التي تقود إلى نهايات مُدمرة للمجتمع الذي تتفشى فيه.
الأولى من تلك السياسات، التي تعين الفساد على التمأسس، هي ديناميكية السلوكيات الفاسدة وقيمها، والمقصود بالديناميكية هنا هو قدرتها اللامتناهية على التأقلم مع التطورات التي يشهدها المجتمع الذي تقصده، واختيار الألوان التي تُخفيها عن العين التي تراقبها، بما في ذلك الأدوات التي تستخدمها لمساعدتها على اقتفاء آثار الفاسدين، ورصد أنشطتهم، بما يكفي لإبعادهم عن أعين الرقباء، وفوق هذا وذاك تمكنها من الاستفادة القصوى، وبشكل فاسد بطبيعة الحال، من التطور التقني الذي يمر به المجتمع الذي يتربصون به. تحاول هذه الديناميكية تجيير أي شكل من أشكال التطور لصالح سياساتها، ومن أجل تحقيق أهدافها. تزود هذه الديناميكية أصحابها بمهارات الحرباء القادرة على التأقلم مع الظروف المُحيطة بها بما يكفل تمويه نفسها بما يكفل لها تحقيق أهدافها. هذه الديناميكية التي نتحدث عنها هي التي تُعين الفساد على الاستمرار والنمو، بعد التمأسس، كظاهرة، وتساعد الفاسدين على إخفاء أنشطتهم، ومقاومة الوسائل التي تحد من فعاليتهم.
الثانية هي علاقة التأثير المتبادل الطردي بين الفساد والإرهاب، بأشكاله الواسعة، التي تتجاوز أشكال العمليات الإرهابية ذات الطابع الشخصي، والإطار الضيق، الذي يتوهم إمكانية حصرها في عمليات متناثرة غير مترابطة ينفذها شاب ساذج هنا، أو فتاة مراهقة هناك. ولعل ما تشهده المنطقة العربية، وبدأت تنتشر في بعض دول أوروبا، اليوم من تنامي ظاهرة الإرهاب المنظم المؤدلج الواسع الانتشار فيه الكثير من التجسيد الحي لما نتحدث عنه عن تلك العلاقة بين الإرهاب المنظم والفساد المنظم المرافق له. وليس هناك من ضرورة لإهدار الجهود بحثاً عن أيهما يسبق الآخر، فهما صنوان يتناسلان من جذر واحد هو مشروعات مأسسة الفساد، وبقدر ما ينجح الفاسدون في تطوير الأشكال والقنوات والوسائل التي تمكنهم من ممارسة سلوكياتهم الفاسدة وتنفيذ سياساتهم الأكثر فسادًا، بقدر ما تنتعش ظاهرة الإرهاب المنظم، ويتسع نطاق حضورها المؤذي، من خلال تطوير أساليب الإرهاب نوعيًا، وتوسيع نطاق أنشطته كميًا.
أما الثالثة، وهي الأكثر خطورة، فهي تلك العلاقة الفاسدة التي تنمو بين القوى الفاسدة المحلية ونظيرتها العالمية، أو الأجنبية الإقليمية، والتي تحرف تلك العلاقة السليمة المنطقية عن مسارها الصحيح، وتجرها نحو قنواتها الملوثة. وهنا تتراجع مكونات وهياكل علاقات التكامل الإيجابية بين الشعوب والحكومات من حاضناتها الخصبة المنتجة البناءة، لصالح تلك الفاسدة المتفسخة المُدمرة. وينتعش من خلال تلك العلاقات المنحرفة النخرة كل أشكال تشويه العلاقات الإنسانية وتوجيهها نحو أخرى بديلة تقترب من الحالة الحيوانية. وتمس هذه التشويهات المنطلقة من سياسات مأسسة الفساد جوهر علاقات التفاعل الإيجابي بين القيم الحضارية، وفي القلب منها تلك الدينية، بين الأمم، فتتحول صلات التآخي المنطقية المتوخاة نحو علاقات التصادم المفتعلة التي يُغذيها حبل سرة الفساد الممأسس.
ونأتي إلى الرابعة وهي العلاقة بين الفساد وخطط تهشيم مقومات السلم الأهلي، وقد يبدو ذلك تجريداً طوباويًا، أو ربطاً مفتعلاً، يحاول إيجاد علاقة ما بين تفشي الفساد، وتراجع السلم الأهلي، لكن الدلائل كافة تشير إلى تلك العلاقة العكسية الوثيقة بينهما، فكلما ازداد الفساد تفشيًا، واتسعت دائرته، كلما تراجعت قيم السلم الأهلي والممارسات التي ترافقها. ذلك أن أول مسمار يدقه الفساد، بعد تمأسسه، في نعش السلم الأهلي هو زرع بذرة الشقاق بين مكونات المجتمع المعني، ممن لا يستفيدون من تلك الظاهرة، أو يتضررون من انتشارها. كهنة معبد الفساد يدركون أكثر من غيرهم أن التنافر الاجتماعي هي البيئة الخصبة التي ينمو فيها الفساد وتزدهر فوق تربتها أشجاره الخبيثة. وعليه فمن مصلحتهم المباشرة محاربة السلم الأهلي، وتدمير مؤسساته. فمن الظواهر التي ترافق ازدياد حضور السلوك الفاسد في منظمات المجتمع، وأجهزة الدولة، هو التمييز غير العادل الفاسد بين فئات المجتمع، الأمر الذي من شأنه تقديم الفئات المتضررة من ذلك السلوك الفاسد على طبق من الفضة للجهات الإرهابية التي تنتظر تلك الفئات، وعلى وجه الخصوص القوى الشابة المتحمسة منها، على أحر من الجمر، بعد أن استحدثت كل وسائل الترغيب التي تخاطب ذهنية تلك القوى الحيوانية، بعد أن تغيب عنها النزعات الإنسانية.