مدرسة فيريري: المتعلمون ليسوا حسابات بنكية

 

 

د. سيف المعمري

لم يهزم توني بلير ثقافة الصمت حين اعترف خلال الفترة القريبة الماضية بأنَّ غزو العراق كان خطأ، وأن المعركة التي زعموا أنها كانت لتحرير المقهورين في العراق والشرق الأوسط قادت إلى ظهور قاهرين جدد كانوا أسوأ من صدام حسين، اعتراف بلير لم يكن ليغير شيئا فالحقيقة هي الحقيقة ولا يمكن أن يختلف عليها أحد، ولكن هذا الاعتراف أعاد الجدل مرة أخرى إلى نقاط مهمة جدا في مقدمتها الحكم والتعليم؛ لذا لم أستغرب مضامين أعمدة بعض الكتاب العرب الذين ذهبوا إلى القول بأنَّ عهد صدام رغم صرامته كان أفضل من عهد الحكام الجدد، وأنه إذا كان القهر قدرا لابد من اختيار الأقل ضرراً، وقد يكونون محقين في ذلك بعض الشيء، هذه النقاشات أعادتنا إلى التربوي الذي نجح في هزيمة مدرسة الصمت التي سعى بلير وكثير ممن سبقه من سياسي الغرب والشرق في تعزيزها في مجتمعات العالم النامي نتيجة الغزو العسكري أو الثقافي ونتيجة الخطاب الفوقي الاستعلائي الذي ينظر إلى الشعوب الأخرى بأنها غير ديمقراطية، ولا مدنية، ولا مستنيرة ولابد من غزوها من أجل منحها لحظة الحرية التي ستغير حياتها، وقد وجدت مثل هذه الخطابات وغيرها مساندة غير طبيعية رغم الزيف التي يكتنفها نتيجة غياب مدرسة باولو فيريري في هذه المجتمعات، هذه المدرسة التي تنظر إلى عملية التعلم بأنها إما عملية لمأسسة القهر واستدامته أو أنها عملية لتحرير الإنسان وتسليحه بالوعي الذي يمكنه من فهم الأدوات والأساليب التي يستخدمها القاهرين، فلا ينخدع بها مهما قدمت له ببراعة ولغة محكمة.

لقد قاد المفكر باولو فيريري البرازيلي إلى إحداث تحول كبيرة في فهم كيفية تأثير الظروف الاجتماعية والسياسية في توجيه عملية التعلم، وعمل على محاولة فهم هذا التأثير من خلال مسيرة استمرت أكثر من نصف قرن، أثبت من خلالها أن التربية عملية سياسية والسياسة عملية تربوية، وأن المدرسة ليست محايدة كما أنها ليست دائما لصالح الإنسان، لأنها قد تكون حسب تصوره لها أداة لقهر الإنسان وتزييف وعيه، وبناء صورة سلبية بداخله عن ذاته وإمكانياته وعدم قدرته على تحمل مسؤوليات نفسه إما لجهله أو عدم نضجه، وبالتالي يحتاج دائما إلى من يفكر عنه، ومن يعطيه الحقائق الصحيحة، ومن يقوده إلى الإجابات المقبولة، قد يكون من يقوم بهذا الدول الأب أو المعلم أو رجل الدين أو رجل السياسة أو القناة الإخبارية الغربية، وبالتالي يُولد كل ذلك بداخله خضوعا واستكانة وتسليما بالقدر الذي أراده الله سبحانه له، ويؤمن أن هناك من يعرف صالحه أكثر من نفسه، ولكي ينجح في عملية التعلم عليه أن يستظهر الحقائق المفككة والمغلوطة التي تعطى له عن كثير من المواضيع المرتبطة بحياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ مما يقود إلى ما اطلق عليه فيريري بـ"التعلم البنكي"، الذي يجعل المتعلمين مجرد حسابات يودع فيها المعلمون وغيرهم معارف غير مفيدة للمتعلم، ويسترجعونها متى ما شاؤوا أو يتم حذف بعضها واستبداله بحقائق أخرى، ولقد حذر فيريري من مثل هذا النمط من التعليم لأنه ينتزع الثقة والإنسانية من الإنسان، ويكرس بداخله حالة إعاقة تمنعه من أن ينظر لنفسه نظرة إيجابية، ويكرس بداخله ثقافة الصمت التي تمنعه من التعبير عن رأيه ومطالبه وحاجاته، ولا يستطيع أن يميز بين الإرهابيين ومروجي الديمقراطية، أو بين رجال الدين الصالحين وأولئك الذين يدعون للتعصب والكراهية، أو بين القنوات الإعلامية التي تقدم حقائق من تلك التي تقوم على تزييفها، علاوة على ذلك يجعل مثل هذا التعليم الذي لا يساعد المتعلم على حل المشكلات على الاستعانة بالآخرين، والاعتماد عليهم كمصدر خبرة، مما يجعلهم أوصياء يتحكمون به وبالمجتمعات التي ينتمي إليها، وبالتالي يصبح التعليم على حد تعبير فيريري أداة يستخدمها القاهرون لتكريس وضع المقهورين، وهذا بالضبط ما قام به بلير وكثير من السياسيين الغربيين من خلال رفعهم لخطابات حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية المستدامة.

لقد آمن فيريري بالتعليم كأداة لتحرير الإنسان وتكوينه للمشاركة في تكوين واقعه، كما ظهر في أول مؤلفاته الذي أطلق عليه "التعليم ممارسة للحرية"، وتكونت هذه الرؤية حياة الفقر التي نشأ فيها حيث ولد لأسرة من الطبقة المتوسطة الفقيرة بمدينة ريسيف في عام 1921، ورغم أنه درس في الجامعة الفلسفة وعمل النفس والمحاماة إلا أنه وجد نفسه مشدودا لتعليم الفلاحين والفقراء نتيجة الاستغلال الذي كان يراهم يمرون به، وذاعت شهرته في بداية الستينات حين تمكن من تعليم القراءة والكتابة لـ300 عامل في مزارع قصب السكر في حوالي 45 عاما، ولأن طريقة فيريري كانت تقوم على الحوار حول الواقع وأسباب الخلاص منه، ورفع الوعي لدى هؤلاء العمال والفلاحين اعتبر قادة الانقلاب العسكري الذي حدث في البرازيل في عام 1964 فيريري أخطر رجل في البلاد لأنه كسر ثقافة الصمت، ووصف بأنه خائن وسجن 70 يوما تتم نفيه بعدها إلى بوليفيا، ولكن طريقته المبتكرة ونظرياته التعليمية المنطلقة من الواقع ذاع صيتها في العالم فاستعانت به تشيلي لمدة خمس سنوات ومن بعدها منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة، ودعته جامعة هارفرد ليكون مدرس زائر فيها في العام 1969، وعاد إلى البرازيل في مطلع السبعينيات، وعين في منتصف الثمانينيات وزيرا للتربية في ولاية ساوباولوا بعد أن أثبتت الأيام أن النظريات والأفكار التربوية التي دعا عليها واستفاد منها العالم هي ما تحتاجه البرازيل، وبعد أن عُدَّ خائنًا في فترة ما، لم تجد هذه الولاية غيره لتضع ثقتها فيه لإصلاح التعليم من أجل مساعدة البرازيليين على استثمار مقدراتهم ومواردهم بدلاً من تضع الدول الإمبريالية يدها عليها.

... إنَّ نظرة تحليلية متأنية للتعليم في المنطقة العربية في ضوء أفكار ومقولات فيريري يعتبر على قدر كبيرة من الأهمية، سيما بعد الربيع العربي الذي قاد إلى إحلال أيديولوجيات جماعات غالبة محل أيديولوجيات جماعات مغلوبة، وإلى حذف حقائق عن المغلوبين وتقديم حقائق جديدة عن الغالبين، دون إحداث تغيير حقيقي في عملية التعلم؛ فالتعليم البنكي لا يزال هو السائد في معظم المدارس والجامعات العربية، حيث تتقلص الفرص الحقيقية للخبرات التي تساعد المتعلمين على حل مشكلات واقعهم؛ مما يزيد عدد الخريجين الذين لديهم صعوبات شتى تجعلهم غير مقبولين للعمل في مؤسسات بلدانهم؛ ويزيد من حالة الاعتمادية الخارجية في التنمية لدى هذه المجتمعات، ويزيد من حالة الخداع والتضليل التي تقوم بها المحطات الإعلامية ورجال الدين المتعصبين؛ مما يجعل هؤلاء الطلاب غير قادرين على إجراء حوارات ذات طابع استقصائي تقوم على فهم الواقع، وبناء مهارات التعامل معه؛ وبالتالي يزيد ذلك من فرص الإحباط واليأس والصور السلبية عن الذات، وتعود المجتمعات تسأل: هل نجحت مؤسسات التعليم في بناء الوعي أم قادة إلى إعاقته عن التشكل؟

لا شكَّ أنَّ استمرار تكريس حالة الانهزامية في العقول العربية الصغيرة يعد حالة خطيرة جدًّا؛ فحين يسمع هؤلاء الطلاب أنهم غير قادرين على التصنيع أو الاختراع، وأنهم ليسوا بذكاء الغرب وقدرته على التفكير، وأنَّ الديمقراطية لا تصلح لهم، وأنهم لا يستطيعون بناء تنمية مستدامة، وأن مجتمعاتهم قابلة للفوضى أكثر من قابليتها للنظام، وأن الطائفية والقبلية لا يمكن تحديهما، يؤدي كل ذلك إلى تكريس حالة الاستسلام لدى هذه الأجيال، ويزيد من ضعفها أمام تحديات الحاضر والمستقبل، وأمام الإمبريالية الغربية، ونهبها لثروات هذه المجتمعات؛ وبالتالي تزداد حالة القهر، ويصبح لا طموح للمقهورين إلا تحسين شروط القهر فقط على حد تعبير فيريري، ويصبح المتعلمون ليسوا بشرا قادرين على تشكيل واقعهم، إنما هم مستودعات ترمى فيها أطنان من المعرفة غير المفيدة التي تجعلهم ينيبون غيرهم في التفكير عنهم.

saifn@squ.edu.om

الأكثر قراءة