البُكاءُ على اللبَّنِ المسكوب!

 

سلطان بن خميس الخروصي

يبدو أنَّ المشهد العربي عمومًا والعراقي على وجه الخصوص بدأ يُفرز في الفترة الأخيرة غُثاء التدخلات الأجنبية في العمق السياسي العربي بما يُحقق المصالح "الدراكولية" تجاه معالم الحياة والمدنيَّة، ويبدو أنّ المشروع العربي القومي أضحى أكثر ضبابية وهشاشة مما كان عليه سلفاً، والمتتبع لمستنقعات الدم المهراقة في بلاد الرافدين بعد مجزرة "الكرَّداة" التي حصدت مئات الضحايا وبعد الإعدامات العشوائية التي قادها أشباح الجيش العراقي وقوات "جحش" في الفلوجة واستعدادهم لمذبحة الأنبار، كل ذلك بدأ يُكمل أجزاء الصورة المبعثرة حول مستقبل العراق الذي لا يزال يستنشق البارود والجاهلية الأولى.

بالرجوع إلى العراق وبالتحديد في الثلاثين من مايو 1990 وقبيل دخول الراحل "صدام حسين" للكويت - والتي أصبحت شمَّاعة لنسف أحد أبرز أعمدة الحضارة الإنسانية والإبداع الفكري والعلمي-  نشاهد وفي فيديو "موثَّق" عبر الإنترنت أن الرئيس العراقي كان يمدُّ يده لأشقائه العرب نحو إنقاذ بلدهم الحضاري من محرقة انهيار الاقتصاد العالمي؛ بسبب إغراق السوق وزيادة العرض عن الطلب والذي هوى بأسعار النفط إلى ما دون السبعة دولارات وكان مرشحاً للانخفاض أكثر من ذلك؛ وذلك بدوره كبَّد العراق خسارة مليار دولار يومياً في وقت كانت البلاد لا تزال تُعاني من تبعات حرب الثمان سنوات التي خاضتها مع إيران (1980 -1988) بدعم وتمويل وتشجيع خليجي خالص خشية تصدير الثورة الخمينية آنذاك، لكن كل تلك الدعوات لقيت آذاناً صماء ليُقدِّم الرئيس الراحل بعد ذلك طلبًا لخادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبد العزيز في عقد قمة عربية استثنائية على مستوى رؤساء الدول لمعالجة المشكلة، فجاء الرد السعودي بعقدها على مستوى وزراء النفط فقط ليتمخض الجمل فيلدُ من الأمر فأرا، حينها قدَّم العراق اعتراضًا لوزير خارجية السعودية الراحل سعود الفيصل بأن الأمر يبدو كمؤامرة كيدية لضرب العمق العراقي من خلال تخفيض أسعار النفط وإغراق السوق بالذهب الأسود وبالأخص من الإمارات والكويت والعراق وصل إلى درجة من الضغط الذي لا يتحمله وربما يدفعه لاستخدام وسائل أخرى، فجاء الرد السعودي خاوياً بأن التوجه القومي البعثي في العراق غير مرحب به، وأن نهايته كنهاية عبد الناصر والاتحاد السوفييتي وغيره من الحديث والذي اعتبره العراق من باب الشماتة والاستخفاف به، فكانت الشرارة التي وجَّهت مدافع العراق للكويت وكانت على تخوم السعودية لولا تدخلات الغرب بقيادة أمريكا وإدخال العراق بعد ذلك في مفترقات طرق انتهت بغزوه عام 2003  تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل وما تلاها من المذابح والتي نشاهدها الآن مرورا باعترافات "توني بلير" مهندس التدخل الإنجليزي في الغزو وقوله :"أعترف بكل أسف أن غزو العراق كان خطأ كبيرًا خدعتنا به الاستخبارات الأمريكية، ووجود صدام حسين في العراق كان أكثر استقرارًا وأمناً للعالم وللعراق نفسه بدلاً من الحروب الأهلية والمذهبية وأنا أتحمل تبات تدخل بريطانيا في الحرب"، لكن الغرب ينطبق عليه المثل القائل "يقتل القتيل ويمشي في جنازته" إذ تكرر نفس السيناريو في ليبيا وفي سوريا مع اختلاف المكان والزمان والتفاصيل.

وبعد اغتيال الرئيس العراقي السابق وتغييبه بالموت عن المشهد السياسي بدأنا نقرأ ونسمع عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بين الفينة والأخرى أن من حطَّم تمثال الرئيس أو من رقص مجوناً أو فرحاً بعد اختطافه أو اغتياله أصبح يعضُّ بنانه من الحزن والأسى على عزٍّ قد مضى، وبدأنا نسمع أنّ العراق أصبح ولاية إيرانية – ولا أحد ينكر التدخلات الإيرانية السافرة في العمق العراقي- ، كما بدأنا نسمع أنّ الجيش العراقي الذي كان في عهد (الطاغية) – كما يُسميه البعض والذي تبوأ المرتبة الخامسة  عالمياً والأولى عربياً في عهده -  أضحى وبعد التجربة الديمقراطية الأمريكية لأكثر من ثلاثة عشر عامًا لا يقوى على اتخاذ قرارات سيادية وتكتيكية قبل التمشيط من قوات "جحش" والتي تدخل المدن بنزعة مذهبية أو عرقية أو تحرق الأرض باسم الهوية، والسؤال الأهم من ذلك وعلى الرغم من اختلافنا مع القيادات السياسية في الوطن العربي ومع انتماءاتهم حيث مصالحهم الشخصية هل نُريد إسقاط المشهد العراقي على بقية أقطار الوطن العربي؟، اليوم لا نملك قوى توزان أو ثقل وطني وقومي يدافع عن مصالحنا وهويتنا أمام عمالقة العالم فلِم نرتجِي خلق جراثيم فكرية وأيديولوجية تستبيح الحياة حيثما وجدت؟.

البعض قد يفسر أن هذا المقال ما هو إلا بكاء على اللبن المسكوب أو دفاع عن رئيس حكم وقضى أمره – ولكل شرعة ومنهاجا – لكن من الضرورة بمكان أن توزن الأمور كما هي، فإن كان جحيم صدام أو بشار أو القذافي أو البشير أو غيرهم يبعث للإبداع والعلماء والمبتكرين حياة واقعية فهو أرحم من نعيم فوضى هلامية، وحديثي عن الراحل صدام حسين كان من باب المثال لا أكثر فنحن لا نعرف ما سوَّقه الإعلام عنه حول مجزرة حلبجة، أو حرب الثمان سنوات، أو غزو الكويت، أو حتى عن تفاصيل غزو العراق واغتيال الرئيس، لكننا نشاهد الواقع والمؤشرات والتي بدروها تُنبئنا عمَّا كان عليه الوضع وما آلت إليه الأمور، العراق اليوم أضحى مستباحًا حضاريًا واقتصادياً واجتماعيًا وثقافياً ودينيًا وفكرياً ممن كانوا أعداءه بالأمس، وأصدقاء العراق بالدم واللغة والدين وأعداؤه  بالفكر أصبحوا مُطوَّقين بأقزام الأمس فأين السبيل ؟!

لكُم كُل الودّ

 

sultankamis@gmail.com