مأسسة الفساد في البلاد العربية (1/2)

 

عبيدلي العبيدلي

في واحد من برامجها العربية التي تعالج قضايا محورية راهنة، سلطت فضائية "روسيا اليوم"(https://arabic.rt.com )  الضوء على واحدة من أهم قضايا الفساد في العراق. استضافت الفضائية مدير المؤسسة العالمية الأسترالية لخدمات التحقيق حسين الكرعاوي كي يُلقي الضوء على "قضايا العراقيين المتضررين من استخدام أجهزة (آي دي آي 651) الفاسدة وتقاضي باسمهم الشركة البريطانية المصنعة والمصدرة للجهاز، وستطالب بتعويضات تتناسب وحجم الفواجع التي حلت بمئات ألوف العراقيين جراء هذه الصفقة". ووفقًا لروايات الكرعاوي "فإنّ مسؤولين عراقيين كبارا، متورطون في الجريمة.. والمؤسسة الأسترالية تملك وثائق دامغة بإدانتهم". وتمحورت مادة البرنامج حول فشل أجهزة الكشف عن المتفجرات الفاسدة في منع حدوث تفجير الكرادة الذي ذهب ضحيته مئات القتلى وأكثر منهم كان عدد الجرحى والمصابين.

المُلفت للنظر في مادة البرنامج هو الشواهد على عدم ملاحقة الفاسدين، بل على العكس، وكما أوضح ضيف البرنامج، فإن البعض منهم، ممن ثبت تورطه، ما يزال ينعم بمركزه العالي في مؤسسات الدولة، وأجهزتها، بعد أن تمَّ اختيار مجموعة أخرى من المسؤولين جرى اعتقالهم بعناية كي يكونوا كبش فداء للمتورطين في قضية الفساد تلك.

السيئ في الأمر أنّ من كشف عن عناصر الفساد في تلك القضية ليست جهات عربية، وإنما مؤسسة بريطانية دعت لمحاكمة الشركة البريطانية الضالعة في القضية.

على نحو موازٍ نشر موقع الفضائية الإلكتروني النداء الذي وجهه "الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمحاسبة المتورطين في قضية فساد توريد محصول القمح إلى الصوامع الخاصة والتي كشفتها الأجهزة الرقابية".

وقبل ذلك الحادث بفترة كشف الإعلامي المصري خيري رمضان، "عن بعض تفاصيل الواقعة التي رواها الرئيس عبد الفتاح السيسي عن واقعة مخالفة أو فساد داخل مؤسسة الرئاسة، مشيرا في برنامجه (ممكن)  المذاع على قناة (سي بي سي)، إلى أنّ أحد المسؤولين الكبار روى له تلك الواقعة".

جميع تلك الوقائع، وأكثر منها وأسوأ أصبح من المشاهد اليومية التي تكشف عنها وسائل إعلام أجنبية جميعها، تؤكد وبالشواهد استشراء الفساد وانتشاره في المجتمعات العربية، وتحوله إلى ظاهرة اجتماعية تدق نواقيس الخطر مهددة بتحول أجهزة الدولة من مؤسسات تخدم المواطن، وتقضي حاجاته، إلى أوكار تختبئ فيها عصابات تهدر الأموال، وتهشم القيم وتنشر المفاهيم الخبيثة، كي تنمو رويدًا رويدًا فتتطور من مجرد سلوكيات فردية عفوية ومتناثرة إلى مؤسسة رسمية مجتمعية راسخة الأركان.

وتحاشياً لصرف النَّظر عن هذه الظاهرة المُتنامية في المنطقة العربية، ومعالجتها كبضاعة مستوردة بإلقاء المسؤولية كاملة على الشركات العالمية، وتبرئة المسؤولين العرب، لا بد من الاعتراف، دون إعفاء الطرف الأجنبي، أنّ للفساد تاريخًا طويلاً في البلاد العربية، بدليل أنّ كلمة الفساد لها حضورها في قائمة مفردات اللغة العربية.

فالفساد كما يعرفه أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم صبري محمد خليل، هو  "البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل"، ويسترد خليل قائلاً "ورد لفظ الفساد فى القرآن للدلالة على عدة معانٍ كالشرك والمعاصي وما يترتب على ذلك من انقطاع الصيد في البحر والقحط في البر كما في قوله تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) (الروم الآية41) ، أو الطغيان والتجبر كما في قوله تعالى (للذين لا يُريدون علواً في الأرض ولا فساداً) (سورة القصص الآية83) ، أو عصيان أوامر الله كما في قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم عذاب عظيم) (سورة المائدة الآية33)".

والفساد كما يراه أبو حيان الأندلسي هو "التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة". أما ابن منظور في (لسان العرب)، فيعتبر: "الفسادُ: نقيض الصلاح، فَسَدَ يفسُد ويفسِد، وفسُدَ فساداً وفسودا ... المفسَدَة خلاف المصلحة، والاستفسادُ خلاف الاستصلاح".

أما الفساد اصطلاحاً، فهو كما يعرفه الكاتب مشعان الشاطري، "إساءة استخدام السلطة الرسمية الممنوحة له سواء في مجال المال العام أو النفوذ أو التهاون في تطبيق النظام أو المحاباة وكل ما يضر بالمصلحة العامة وتعظيم المصلحة الشخصية".

وهناك العديد من المصادر التي تذهب إلى غياب تعريف محدد للفساد، فهناك من يعتبره الخروج "عن القانون والنظام (أي عدم الالتزام بهما) واستغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية للفرد أو لجماعة معينة"، بينما يعرفه آخرون على أنّه: "قيام الموظف العام وبطرق غير سوية بارتكاب ما يُعد إهدارًا لواجباته ووظيفته، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعًا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية". من جانبها تعتبر منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنّه "كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعية".

وكما يبدو، فإنّ انتشار الفساد في مؤسسات الدولة العربية وأجهزتها، والخشية من تحوله إلى ظاهرة مجتمعية تتفشى في صفوف الفئات المجتمعية المختلفة، قاد إلى اجتهادات متباينة تحاول أن تُسلط الضوء على جوانبه المتعددة بما فيها أنواعه، كما يحاول أن يحصرها الكاتب د. محمّد بن عبد العزيز المسند، الذي يخطئ "من يظنّ أنّ الفساد في الأرض نوع واحد فقط أو نوعان... إنّ للفساد أنواعاً كثيرة مختلفة، ولكلّ نوع منها صور عديدة ومتنوعة، (من بينها): الفساد الإداري، والفساد المالي".

كل ذلك يقتضي محاربة الفساد قبل أن يستشري ويتحوَّل من سلوك مُنفر يتنافى والقيم الصحيحة، إلى ظاهرة طبيعية نتعايش معها ونستمتع بتداولها.