متحف تذكاري لضحايا الحوادث المرورية !

فيصل الحضرمي

احتفل العالم قبل أيام قليلة باليوم العالمي للمتاحف الذي يصادف تاريخ الثامن عشر من مايو من كل عام. السلطنة كعادتها كانت من ضمن المحتفلين بهذه المناسبة عبر فعاليات عديدة ربما كان أبرزها الفعالية التي أقامتها وزارة التراث والثقافة بالمتحف الوطني وشملت مناقشة ثلاث ورقات تحدث فيها المتخصصون عن تجارب ثلاثة متاحف عمانية هي المتحف الوطني ومتحف بيت البرندة ومتحف غالية للفنون. الاحتفال بهذا اليوم العالمي له دلالته الواضحة في التأكيد على الدور الحضاري الذي تضطلع به المتاحف وإسهامها في رفع مستوى الوعي لدى الناس فيما يخص متعلقات المتاحف والمواضيع التي تركز عليها.

لدينا في السلطنة عديد المتاحف التي تعنى بحفظ وعرض المقتنيات التي تمثل الإرث الثقافي للإنسان العماني كالنقوش الحجرية والمسكوكات والقطع الفخارية والمخطوطات والأسلحة والأزياء والحلي والمصنوعات الحرفية. وتقدم كثير من المتاحف نماذج متنوعة تبرز جماليات العمارة العمانية المتشخصة في القلاع والحصون والبيوت التقليدية، وأخرى تسلط الضوء على الفنون الشعبية الممارسة في أنحاء البلاد. وتهتم العديد من المتاحف أيضاً بالتاريخ الجيولوجي والثقافي والسياسي للسلطنة. كما يهتم متحف التاريخ الطبيعي بكل ما يتعلق بتاريخ الحياة البرية والبحرية في الخريطة المحلية. ويتفرد متحف الطفل المُفتَتح سنة 1990 بتقديم مختلف نظريات ومكتشفات العلوم في قالب مبسط وشيق ينمي الفضول العلمي لدى الطفل ويمكنه من تأسيس حس علمي في مقاربة الأشياء والظواهر.

تتباين إذن أنواع المتاحف العمانية. فمنها ما يندرج تحت ما يعرف بمتاحف البيوت كبيت الزبير وبيت مزنة وبيت البرندة، ومنها ما يمكن أن يطلق عليه نسبياً المتاحف الموسوعية لتنوعها وشموليتها كالمتحف الوطني، ومنها ما يعرف بمتاحف التاريخ كالمتحف العماني الفرنسي الذي يعرض التاريخ المشترك للبلدين الصديقين، ومتحف التاريخ الطبيعي الذي جئت على ذكره قبلاً. وهناك أيضاً متاحف للفنون كمتحف غالية للفنون ومتحف للعلوم متمثلاً في متحف بيت الطفل، ومتاحف متخصصة كمتحف العملات النقدية العمانية الموجود في البنك المركزي العماني ومتحف الأسلحة أو متحف السيد فيصل بن علي الذي يعتبر من أهم الشخصيات العمانية التي كان لها إسهاماتها الجليلة في صون وإبراز الإرث الثقافي العماني بشكل عام.

ومع وفرة المتاحف العمانية وتنوع مقتنياتها إلا أنه يلاحظ تركزها غالباً في العاصمة الجميلة مسقط وغيابها عن بقية مناطق السلطنة إلا في حالات قليلة متناثرة هنا وهناك. كما أن هذه المتاحف تعتبر صغيرة الحجم والمحتوى إذا ما قورنت بالمتاحف العالمية التي يعد بعضها من الضخامة بحيث يكاد يستحيل على الزائر الجاد الطواف بجميع أركان جناح واحد من أجنحتها في نفس الزيارة، وإن كانت المقارنة مجحفة وظالمة في بعض الأحيان سيما إذا ما وضعنا في الحسبان قصر عمر التجربة المتحفية في السلطنة مقارنة بنظيراتها من دول العالم. ويلاحظ أيضاً، إن لم تخني الملاحظة، غياب المتاحف التذكارية التي تهدف عادة إلى تسليط الاهتمام على شخصية أو حادثة أو شيء معين بغية تخليد ذكراه أو ظاهرة من الظواهر بهدف تعريف الناس بها بشكل مفصل وإبراز النواحي والآثار السلبية أو الكارثية فيها.

ويمتلئ العالم بمثل هذه المتاحف التذكارية التي تطمح لتخليد ذكرى ما وجدت لأجله. متاحف لكوارث طبيعية وأخرى لمآس تسبب فيها الإنسان. متاحف لحروب ونزاعات دامية وأخرى لضحايا تحطم طائرة أو غرق سفينة. وقد أتيحت لي مؤخراً فرصة زيارة متحف الحادي عشر من سبتمبر بمدينة ألبني الأمريكية العاصمة الإدارية لولاية نيويورك حيث تعرض الكثير من القطع والمتعلقات التي عثر عليها في موقع الحادثة التي اهتزت لها نيويورك والعالم أجمع في ذلك اليوم من العام 2001.

قطعة ممزقة من العلم الأمريكي ومحفظة "أحد المخططين للاعتداء" وفردة حذاء أحد الضحايا وخوذة رجل إطفاء شارك في عمليات الإنقاذ وسيارة إطفاء لم يبق منها سوى هيكلها الصدئ والمتفحم وقطعة هي خليط من الإسمنت والفولاذ المنصهر تمثل شيئاً من ركام المبنى المنكوب ومانعة الصواعق التي ظلت سامقة في سماء المدينة الشهيرة لعقود طويلة قبل حلول ذلك اليوم المشؤوم. ومشاهد مؤلمة من قلب الكارثة تبثها الشاشات الموزعة في جنبات المتحف. كل ذلك في قالب إخراجي محكم لا يدع للزائر من خيار آخر سوى التعاطف مع الضحايا واستنكار الإرهاب والتطرف، ويؤجج في الأمريكان مشاعر الوطنية المفرطة أحياناً ويهيئهم أو يبرمجهم لتقبل فكرة الحرب على "أعداء الحرية" و"رافضي نمط حياة الغرب" كما اعتاد بعض المحللين القول عند تناولهم لظاهرة الإرهاب.

و في رأيي الشخصي فإننا بحاجة لمتحف تذكاري لظاهرة مأساوية تكاد لا توجد أسرة عمانية لم تتضرر منها ومن تبعاتها من بعيد أو قريب وأعني بها الحوادث المرورية التي يكفي أن نعرف أنها اختطفت من بيننا الشهر الفائت لوحده مائتين وعشرة أشخاص وتسببت في إصابة تسعمائة شخص. المتحف الذي أتخيله هنا متحف ضخم يمتد على مساحة واسعة ويضم بقايا المركبات المنكوبة في أشنع الحوادث التي تشهدها طرقات السير والمتعلقات الشخصية لضحاياها وصور بالحجم الكبير للحوادث والأشخاص المتضررين وقوائم بأسماء المتوفين والمصابين وإحصائيات شاملة لأعداد الحوادث وضحاياها عبر السنوات وفيديوهات تمثيلية أو واقعية تعكس مأساوية الحوادث وبشاعتها، ووسائط أخرى توعوية وتثقيفية. لو وجد مثل هذا المتحف بإمكانيات كافية وتصميم إبداعي مؤثر وكثفت زيارات طلبة المدارس والجامعات إليه وركز الإعلام عليه أضواءه الكاشفة فإنه سيمثل إضافة كبيرة للجهود التي تبذلها الدولة والمجتمع في هذا السياق وسيزيد من ثراء وتنوع المتاحف العمانية بشكل عام.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة