السجون في عمان.. إصلاح وتهذيب

عزيزة راشد

(ليتني وردة جورية في حديقة ما، يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار)، بهذه العبارة يعبر شاعر سوريا الكبير محمد الماغوط عن ليل سجنه الطويل، ذلك القفص الذي تسلب فيه كرامتك وتقيد حريتك وتمحى فيه إنسانيتك، وتخرج منه جثة ممزقة إلى حفرة أشبه بالقبر وتنتهي للأبد، تقضي وقتك البائس في ذلك القفص، ترى ذكريات حياتك تمر أمامك كقطار مجنون، لاأحد يصغي إليك، ولا تراك السماء ولا تشدو أمامك حمامة أبي فراس الحمداني وهي تشاركه همومه من نافذة سجنه المظلم، وكما قال الروائي الأردني أيمن المعتوم: أخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنّك إن فعلت صارت رقبتك بيد جلادك، وصرت تتقبل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنّها قبلة في خدّ الرضا، هذه هي السجون التي ارتبطت في الذهنية الإنسانية بأنّها إما أن تشعل فيك وقود الإبداع لتنضم إلى قوافل أدب السجون أو تطفئ فيك نور الحياة للأبد.

كل هذه التراكمات تترسخ في ذهني وأنا أتجوّل في معرض منتجات نزلاء ونزيلات السجن المركزي العماني، فبدت الصورة تتشوش وتغيب شيئًا فشيئًا لتحل محلها صورة أخرى أكثر إشراقا، فالسجين العماني هنا مبدع، وإبداعه تفنن في كل شيء، إنه يصنع ويجدد ويبتكر ويضيف ويرسم الجمال، معروضات في غاية الروعة والاتقان والإبداع، فكيف لسجين بين القضبان أن يرسم جمالا وروحه منطفئة، وليله طويل وكرامته مهدورة؟

لكن الإبداع ينتصر على الوقت والحالة، وإن دلّ ذلك فأنّما يدل على أنّ بيئة السجن العماني بيئة تختلف عمّا سطره أدب السجون، أو ما حكاه السجناء عن جلاديهم أو ما كتبته مليكة أوفقير في رواية السجينة، هنا السجن يشجع الإبداع ويوفر المناخ للانتاج ويلهم أصحاب الهوايات، السجن في عمان يخبر السجين بقصص لا تنتهي عن الحياة الجميلة الآمنة ليزرع في قلبه الأمل ويرسخه في ذهنه، السجين جاء ليرتد عن خطئه ويبدأ حياة أخرى أكثر إشراقا لأسرته وأعظم إخلاصا لوطنه وأفضل خدمة لمجتمعه، وأن السجن ليس عقابا بل تجديدًا وإصلاحا وتهذيبا للسلوكيات.

أتجول في معرض نزلاء ونزيلات السجن المركزي العماني وأنا مبهورة بالإتقان الشديد في المشغولات اليدوية والقطع الفنية والرسم المتقن، لم يغادر السجين العماني بيئته، ولم ينكر مجتمعه بل ساهم في صنع منتجات من داخل البيئة العمانية وعبر خاماتها، فكانت السفن الخشبية حاضرة بتفاصيلها المتقنة، ولعلّ السجين رأى في شراع السفينة الأمل القادم، تعددت المعروضات من الكماليات الجميلة والأقمشة المطرزة وغيرها.

(لدينا حياة هنا في هذا المعرض) تردد مخيلتي هذه العبارة وأنا أتجول في المعرض، ثمة أمل في نفس السجين، هناك زُرّاع لهذا الأمل بلا شك؛ فالقائمون على السجون وفرّوا بيئة مناسبة وفكرا متجددا ليعبر من خلاله السجين إلى العالم، وقد أصبح مواطن صالح لمجتمعه ووطنه، ومما لا شك فيه أنّ ظاهرة الجلاد غير موجودة في السجون العمانية، ولا توجد في عمان سجون سيئة السمعة على سبيل المثال، ولم نسمع قصصًا مرعبة من الذين خرجوا من هذه السجون، فالجميع في السجون العمانيّة إخوة يتعاونون فيما بينهم، وهذه صورة قلما نراها في السجون العربية والعالمية، شكرًا لنزلاء ونزيلات السجن المركزي العماني على الإبداع الزاهي، وشكرًا للقائمين على إدارة السجون، شكرًا لأنكم خلقتم من العدم حياة متجددة وزاهرة بزهور الأمل، وقدّمتم لعمان مواطنين صالحين يلتحقون بالركب مع إخوانهم لبناء عمان العظيمة.

تعليق عبر الفيس بوك