الليلة الحزينة لن تكون الأخيرة!!

د. عبد الله باحجاج

من كثرة تكرارها .. أصبح من المألوف سقوط دماء شبابنا على أرصفة الوطن، وتحديداً، على خطوط طريق مسقط صلالة ومنه لدول الجوار .. ففي كل فترة تهزنا حوادث مرورية مروعة، تبرر دائمًا بإهمال السائقين وتقصيرهم، وتهمل أوضاع الطرق التي تسبب الحوادث المميتة أو تفاقم من أخطاء السائقين، وتتكرر المشاهد تباعا، نحزن كثيرا، ثم ننسى سريعًا، ومع كل حالة متجددة، تأخذ الزخم نفسه، أفعال وردود أفعال آنية، لكن وبمجرد أن توارى الجثامين الثرى، تنتابنا حالة نسيان غريبة، لا نصحى منها إلا على وقع كارثة مرورية جديدة!

هذا ينطبق على حادثة طريق فهود /عبري المروعة التي راح ضحيتها (18) شخصاً وأصيب فيها (16) آخرون من جنسيات مُتعددة، أغلبهم عُمانيون، فهل ينبغي أن نحمل الإهمال والتقصير والاستهتار مسؤولية هذه الكارثة فقط؟ ونختزل القضية في خطأ سائق أو إهماله؟ لا يمكننا أن نغمض العينين عن رؤية السبب الحقيقي الذي يؤدي الى اصطدام العربات وجها لوجه حتى لو بفعل السرعة والخطأ، وهذا النوع من الحوادث تكون تداعياته مأساوية، كما حدث يوم الثلاثاء الماضي، فليلتها كانت حزينة، وحزنها عمّ البلاد، وظلامها كان أشد سواداً على محافظة ظفار، لسقوط أغلب الضحايا من شبابها، بعضهم كان عائدًا من دبي بشمعة أمل لحياة جديدة، يتطلع أن تضيء له مسيرة حياته، غير أنها انطفأت فجأة على طريق فهود/عبري، وعليه كذلك، تبددت أحلام الكثير من الأسر بفقدان أبنائها من الجنسين، رصدنا ملامحها من صلالة في ليلة دفن ثمانية جثامين حتى الفجر، إنها ليلة ليست كالليالي، ليلة كسرت الأفراح، وأثقل حزنها كاهل ظفار، وكستها الأحزان ظلمات.. وأعادت قضية تواصلنا الترابي مع العاصمة وبقية المحافظات وسفرنا البري مع بعض دول الجوار من أوسع أبوابها، وهي قضية لها عدة عقود، ومعها، أصبحت مسألة التواصل والسفر البري شبحًا مخيفًا يلاحق الكثير من المواطنين ومن دول الخليج، فكيف نتطلع أن تكون السياحة مصدراً أساسيا للدخل، وبديلا للنفط مستقبلا وهناك طرق تزهق الأرواح بأبسط الأخطاء وبمبررات لا يمكن قبول استمرارها ؟ في تلك الليلة، التي ساد فيها الحزن، وأنتجت لنا تداعيات نفسية عميقة ستشكل سيكولوجية ضحايا الأقارب لسنوات طويلة، وقد تتحول إلى حالة مستدامة، ثلاثة من الشباب يموتون والرابعة، في المستشفى تتلقى العلاج، حزن كبير تصاحبه حيرة الأولويات، أيواري الأب أبناءه الثلاثة أم يذهب لعبري لبنته المصابة، إنها ليلة حزينة، غريبة، عجيبة، وقد كنت شاهدها، ومتفاعل معها في لحظات الزمان والمكان، ورغم تلك الحيرة، لم تسقط الدموع من عينيه لو دمعة واحدة ..أو يصدر منه ردة فعل غاضبة ..ظل واقفًا لساعات طوال يستقبل المُعزين في صمت مطبق، يسيطر على مشاعره بقدرة عالية .. ولما اقتربت منه معزيًا، رأيت في عينيه حزن عميق دون دموع، رغم أن جوارحه الخارجية تودي وظائفها الاعتيادية، تستقبل التعازي بتلقائية عادية، عندها أنّه لا يزال في هول الصدمة وربما في مرحلة الحيرة بتلك الثنائية المتصارعة، وكلما أمعن النظر فيه، أجد في داخله، قلبًا يدمع، ومشاعر على أرصفة عبري/فهود، تتألم وتتوجع، وفي مستشفى عبرى تدعو الله وتتضرع .. وجدت جوارحه معنا، بينما قلبه في تلك المواقع وسط ترقب وصول الطائرة العسكرية التي تحمل جثامين أبنائه الثلاثة مع الآخرين، وقلق على صحة بنته ونفسيتها المحطمة بهول الحادث وفاجعة موت إخوتها.

وقد كان الحشد الاجتماعي الكبير جداً الذي جاء لتعزيته تأثير ملموس في التخفيف من مصابه الجلل، وهذه عادة حسنة يحرص عليها أهل عُمان عموماً وخاصة الظفاريون، فحرصهم على تقديم التعازي يخفف من وقع المأساة في النفس، ويكبح جماح التأثير النفسي، وعندما نبحث في قصص الضحايا الأخرى .. سنجد فيها معاناة من نوع آخر .. فهناك أسرة كاملة ترقد في مجموعة مستشفيات بإصابات مختلفة، وهناك أسرة فقدت ابناً في سن العشرين وآخر منوم في مستشفى عبري بعد أن تعرض لمجموعة كسور..وهي جميعها ترفض التسليم بمبررات الإهمال والتقصير لوحدها، حتى لو كانت كذلك.. فهل العمل المؤسساتي ينبغي أن يظل متفرجًا على تكرارها بين كل فترة وأخرى .. فهناك عوامل أخرى مسببة لحوادث اصطدام العربات وجهاً لوجه؟ وهنا ينبغي أن نحاكم طريق عبري - فهود من هذا المنظور ومنه ينبغي التسليم بحقيقة ثابتة، وهي أن أيّ طريق بحارة واحدة كطريق فهود /عبري وطريقنا الاستراتيجي أدم /ثمريت لابد أن نتوقع مسبقاً أن أي خطأ فيه من السائق أو تقصيره أو إهماله سوف يجد عربته وبمن فيها في الحارة المقابلة له، مما ينجم عنها الاصطدام وجهاً لوجه، وهذا السبب الحقيقي لكارثة فهود /عبري، مثلما كانت سبباً للكوارث الأخرى على طريق أدم /ثمريت، والكارثة فيه - لا قدر الله - مفترضة، لكثرة استعماله وتفضيله لأنّه يختصر المسافة ويقللها قرابة ساعة أو أكثر، وهو يعج بحركة الشاحنات التجارية وحافلات النقل ومركبات المسافرين .. فالخطأ البشري وارد .. لكن لم لا نؤمن الطريق لتجنب الأسوأ ؟

إذن، حوادث الاصطدام وجهاً لوجه متوقعة، وستظل كذلك في ظل وضع الطريق سالف الذكر، فلماذا لا يتم عمل ازدواجية مادام يشكل تلك الأهمية الاقتصادية والسياحية والاجتماعية، وما دامت الحوادث دموية وحجية أن طرق لندن مثلاً ليست كلها مزدوجة، مردودة تماماً، فمنطقنا الوطني يتعامل مع التطور والتنمية من الخصوصية والظروف العمانية لا الخارجية، فالبيئيات مختلفة ومن هنا، يمكن القول صراحة، لو كان هذا الطريق مزدوجًا، لما كانت حادثة الاصطدام،، وجهاً لوجه،، قد وقعت، وهذا يسري كذلك على طريق أدم /ثمريت المثير للجدل -وقد تناولناه في مقالات كثيرة - والذي أصبح يوسم بطريق الموت لكثرة حوادثه المميتة ومن جنسيات عديدة، فأين وصلت عمليات ازدواجيته؟

أخيرًا، نقول إنّ مبررات،السرعة المفرطة وعدم التركيز في السياقة، لم تعد مقبولة في ظل تعاقب وتوالي الليالي الحزينة، وديمومة مأساة الحوادث على المجتمع، فلابد من حصر طرق الموت والعمل على ازدواجيتها عاجلا، وتشديد العقوبات والرقابة على مستخدميها ووضع شروط واشتراطات جديدة على أصحاب الحافلات والشاحنات .. في إطار منظومة جديدة تسحب كل المبررات والأسباب التي تؤدي الى وقوع الحوادث المميتة التي لا مبرر لها أبداً، ودون ذلك ستظل روائح الموت وشبحه تطارد كل من يتواصل اجتماعياً داخل ترابنا الوطني أو يسافر براً للخارج، (فغفلة) في ثانية واحدة فقط أو خلل طارئ في الإطار، سوف يجد السائق نفسه وجها لوجه أمام السيارة المقابلة له، مما ينتج عنه أسوأ الكوارث المرورية والسبب الحارة الواحدة!.

تعليق عبر الفيس بوك