مدن تفتش عن فضاء وهوية

رحاب أبو هوشر

للمدن سطوة الواثق من رسوخ وجوده، وصلابة تكوينه، وتسامح العارف لقوته وقدرته. فتحت دائماً أبوابها للقادمين إليها، من القرى والبوادي والأطراف، ولمن هاجر إليها من البلدان البعيدة، واتخذها مستقراً. طوعت اختلافاتهم وتعدد منابتهم وتنافر طباعهم، فخلعوا عنهم عبء أفكارهم الضيقة، وفظاظة استعلائها واستعدادها للتخندق والعراك، وأدركوا أنّ ثمّة عالم مُتعدد متنوع الوجوه، يمتد خارج حدود بائسة، ويسع الجميع. ستأخذهم المُدن الكبرى للجمال في كل ركن منها، لاختيالها بالفن والثقافة، في مسارحها ومتاحفها ودور السينما، للأناقة في شوارعها ومبانيها، وسلوك ساكنيها. ستدلهم على أمكنتها الأثيرة، أمكنة سبقتها شهرة أسمائها، وعبق روائحها وعراقة طقوسها. أزقة وأسواق ومطاعم ومقاهي، تعكس إيقاع الحياة وشكلها في المدينة، وتحفظ ذاكرتها وتقاليدها.

تفصح المدن العريقة وجودا وفاعلية، عن هويتها كل يوم، وتكشف ما تحمله ملامحها من خصوصية، تبوح بتنوع عناصر شكلتها، مثل امرأة خلاسية، منحها امتزاج الأعراق في تكوينها، انسجام التناقضات على هيئة جمال نادر. وتفرد المدن الكبيرة وعتق تجربتها، لا يقتصر على مساحة جغرافية، وطرز عمارة وأبنية، تدلل على حقب زمنية عبرتها، وتترجم حياة من سكنها من البشر، وإنّما في مخزونها الثقافي والحضاري المديني، غير المنقطع طوال ذلك التاريخ، والمُمتد الأثر في تفاصيل حياتها الراهنة، وفي سمات مسلكية لساكنيها، وأسلوب عيش يحمل بصمتها، ومزاج شعبي ترشح منه قسمات المدينة أيضًا، وهي مفردات تؤسس فضاء المدينة الاجتماعي والثقافي، وتكسبه هوية، إلى جانب تخليقها وعي اجتماعي عميق بتلك الهوية، قادر على حمايتها، كي لا تنسى تلك المدن ماضيها، وتمارس العسف على حاضرها، فيستخف بها المستقبل.

لا تضيق المدن الكبرى بخصوصيات القادمين، ولا تناوئ لغاتهم ولهجاتهم وأعرافهم وتقاليدهم، ولا تطالبهم بالذوبان في تيارها، لأنّها تعلم أنّ الوقت لن يطول حتى يسلموا أفكارهم وأمزجتهم لفضائها الأكثر اتساعاً، والأعظم فتنة من إرث قليل، سيكون محصورًا بمجموعة هنا، أو طقوس ستبدو مستهجنة لبضعة أفراد، وعادات ستجد نفسها غريبة عن المناخ العام، ثم تستسلم تلك الخصوصيات لاحتواء المدينة، لتدخل نسيجها الاجتماعي، ويرتفع رصيد المدينة من ثراء تنوعها التاريخي.

سلوك البشر في المدينة، تنظمه قوانين مستمدة من شخصية المكان وميراثه الطويل، ومن عناصر الهوية المدينية، حيث يتكون المجتمع من خليط من القادمين من مناطق مختلفة، ممن صاروا ينتمون لمكان جديد، تتفتت فيه علاقات الدم وتضعف، لصالح علاقات أكثر منطقية، مبنية على إمكانية العيش المشترك والمصالح المتبادلة، ويتأسس على العائلة الصغيرة النووية، وتنكمش العائلة الممتدة في البيت الواحد، مما يُعزز الميل الفردي لدى النّاس، ويمنحهم مساحة من الحرية. تلك قوانين ليست مكتوبة، إلا أنّ القادم من القرية مثلا، سوف يستشفها من خلال أنماط المعيشة الدارجة، ولن يملك إلا خيار التناغم مع إيقاع يُلاحق عصره، أو سيظل منزوياً في هوامشها المُعتمة، يستدعي ماضيه الهانئ بأنات الحنين.

المُدن العربية الكبرى قليلة، وتُعاني أزمات مُعقدة، جعلت حالها لا يختلف كثيرًا عن حال معظم المدن العربية التي لم تزل مشاريع مدن، تعيش مخاضات المرحلة الانتقالية. إنها مدن غائبة الملامح، فتية العمر والتجربة، وتجهد في تشكيل شخصيتها وهويتها. بعضها أتم عقوداً قليلة وحسب. وسكان تلك المدن ينحدر معظمهم من بلدات وقرى، ممن انتقلوا إليها في موجات للاستفادة من الخدمات والوظائف، المتركزة في المدن، والعواصم غالباً، وحرمان القرى والمناطق النائية منها.

لم يحدث هذا الانتقال إلى حياة المدينة تدريجيًا، كما أنّه لم يأت في سياق تطور طبيعي، وفي بعض الحالات كان قسريًا بسبب الحروب والمجاعات والأزمات، أو أنّه كان محض حاجة للعمل في وظائف الدولة، لذا فلم يكن الانتقال بذاته، قادراً إلى اليوم، على إنتاج نمط حياة يمنح المدينة طابعًا أو ملمحاً مدينيًا خالصًا، أو إنتاج علاقات اجتماعية تتوافق مع تغير نوع العمل أو طراز السكن. وفي حين أن المدن الكبرى أو المكتملة الشخصية، على أقل تقدير، تعمل تأثيرها على الفوارق المسلكية والحضارية بين النّاس، وتصهرها في إطار هويتها، ظلت مجموعات كبيرة من سُكان المدن الحاليين، يتوافدون ليتكتلوا في مناطق خاصة بهم، يمارسون فيها عزلتهم الاجتماعية والثقافية، ويقاومون التفاعل الاجتماعي مع أوساط خارجية، ويُعيدون إنتاج أساليب عيشهم القديمة، ومنظوماتهم الأخلاقية والسلوكية، ومفاهيمهم الاجتماعية التي لم تعد تنسجم مع شكل الحياة الجديد. ومن أبرز ملامح المدن الغائبة الملامح، كرنفال اللهجات والملابس والعادات الاجتماعية المتضاربة، التي لم تتمكن المدينة بعد من تطويعها، والتي تُعبر عن هويات مناطقية ضيقة، تعيق نضج علاقات المدينة وهويتها وأيضاً دورها.



تعليق عبر الفيس بوك