عشق السماء للأرض

محمد رضا اللواتي

منذ ليلتين، وسماء مسقط على تواصل مع الأرض بنحو مختلف.. فالشمس واجمة للغاية، للكمية الهائلة من قطع الغيوم الداكنة والتي تجوب آفاقها، وقد أسدلت الستار على شعاع كتلتها الصفراء، واستبدلتها بزخات من الأمطار، تارة تهطل برفق، وأخرى بحزم.. نتج عن هذا التواصل البديع "كرنفال داخلي" في النفوس؛ إذ إنَّ طاقة إبداعية مزخرفة بهالات من السكون الممزوج بالمرح والرغبة في التعبير والإنتاج والصُنع، سطعت بشكل مذهل، فإذا بالناس يجولون الشوارع غير مكترثين بنفاد كمية البنزين في سياراتهم ولا بالنزول الحاد في أسعارها، وآخرين وقد يمموا وجوهم شطر الشواطئ والحدائق، ومنهم من لم يجد مانعا من خوف أو غيره يعيقه عن الارتماء وسط مياه جارفة أو أودية مهلكة!

الابتسامات والبشاشة تكون صِفَة الناس الغالبة أثناء وأعقاب المطر، ومظاهر الحب والتجاوز عن الإساءات، وبروز الأفكار من أكمام الأذهان بنحو غير مسبوق، والرغبة في العطاء والبذل والمساعدة تبدو بنحو لفتت العلماء ونتجت عن اهتمامهم بها دراسات تناولت تأثيرات الطقس على الانسان، وكيف يمكن لعوامل البيئة أن تلعب دورا إيجابيا كبيرا في شخصيته.

هل كل هذا النشاط والحيوية أبدعته القطرات المنهمرة جراء ما أبدته السماء من عشق للأرض؟

ليس لنا أنْ نعجب كثيرا! فللسماء تدخُّل مذهل في صناعة مزاج الإنسان. ليست بالتي لا تمل النظر إلى ما تحتها فحسب، بل إنَّ أياديها حقيقة ما ملت من عجن طينة البشر، وما تخمرت روحه إلا في أناملها.

وإلا، فلو كان الإنسان شبيه مساحات الأرض، 80% منه ماء وكفى، و20% منه أملاح عضوية ومعدنية لا غير، لما أصابه الشتاء الطويل بالكآبة، ولا أبدعت فيه الأمطار روح الانتاج وتجاوز الحدود، ولا كان "لشكبير" أن يطلق على القمر "سيد الحزن المطلق"! فالمشاعر والأحاسيس الباطنية مؤشر على البُعد التجريدي في الانسان، وهو بهذا البُعد يتجاوز حدود الصخور والمعادن ليصل إلى "المنظر الأعلى" -مصطلح يُطلق على عالم الإله في عُرف الحكماء.

حقًّا.. يمتلك الكائن البشري قناعة "ميتافيزيقية" تدعوه لتأمل السماء وفحصها واكتشاف ما تربطها به من علاقة وعشق متبادل وحميمية عرفانية عالية.

يقول الحكماء والمتصوفة من أمثال "إخوان الصفا" إنَّ السماء كائن حي "كبير" له نفس وروح، دغدغت أناملها كل الأرض، فما وجدت ضالتها إلا في "الإنسان" ذي النفس التي تستطيع أن تدخل معها في علاقة وتناغم وتبادل طاقة ومعرفة بالدرجة التي يستطيع الانسان آخر المطاف أن يكون يدها التي تؤثر به في أرجاء الكون الفسيح. وعليه؛ فالإنسان حياته من حياة الكون كله بسمائه التي لا شغل لها إلا بكسب ود الإنسان لتنتهي معه إلى صداقة حميمة، ولعل لقب "خليل الله" مؤشر رمزي يحوي دلالات مقاصد أهل المعرفة تلك يعجز القلم عن البوح بها.

ولنعد إلى كل تلك الطاقة الايجابية التي نشهدها في أثر كل انهمار سماوي على هيئة أمطار وتأثيره على أرواحنا، ألا ينبغي أن يتم استغلالها بشكل أفضل من الدوران الممل حول شارع الحب مثلا، أو النزول في مجرى الأودية وتحدي السيول الجارفة؟!

تقترح بعض الدراسات القيامَ بالتالي أثناء هطول الخير الإلهي؛ وذلك لاستغلال الطاقة الإيجابية التي تسطع ذلك الوقت باحثة عن "إنجاز" تؤديه:

- إن كنت باحثا عن فكرة لتطوير العمل، أو لتحسين الإنتاج، أو لضمان الجودة، أو لتحفيز الموظفين، أو لإقناع المسوؤلين، بادر بالتقاط القلم وابدأ بالتفكير الهادئ وبصرك يختلس النظر إلى منظر جريان الأمطار من حولك.

- وإن كانت كومة الأفكار قد أعيتك باحثا فيها عن فكرة لرؤيتك القادمة، أو وصلة تُكمل بها ما بدأت من قصة، فأعد البحث فيها مجددا وسمعك لا يكف عن التنصت إلى هزيم الرعد وجلب المطر.

- إن كانت الكآبة قد سرت لبعض الأحداث في روحك، أو أن حزنا قد تملك مزاجك، فتوجه بالنظر إلى عنان السماء، متأملا مليًّا هذا المنظر المذهل، لتصدر من أعماقك "سبحان الله"، جاعلة مما أحزنك يبدو أمرًا هشًّا للغاية، تستطيع تجاوزه بإذن الله.

- تأمَّل في وزن الإساءة التي ربما كانت قد صدرت عنك تجاه بعض الأحبة، حينما تستمع وتتأمل عزف السماء على قيثارة الأرض، ولتجعل الطاقة الإيجابية التي تملأ أرجاء كيانك تقودك إلى تجاوز هذا المنحدر، والمبادرة بالاعتذار.

- هاتف أسرتك إن كنت بعيدا عنهم، ووشوشة السيول تهمس في أذنك حديث الود، أو اطلبهم بجوارك تتأمل معهم الأجواء، تبادلهم حديث المحبة، وتكثر من الابتسامة في وجوههم، خالطتها وعودك لصغارك بما يتمنون مما هو ممكن، وصرف وجهة نظرهم بأمر آخر ممكن يبعث في نفوسهم الامتنان.

وغداة الأمس، ما وسع شمس مسقط إلا أن أعلنت رضاه بابتهاج الناس لهطول الأمطار، فوافقت على أن ينكسر ضوؤها خلال قطرات الزخات المتتالية، هذا بعد أن أطلت بوجهها من كومة داكنة من الغيوم، جالبة بذلك قوسا زاهي الألوان وقد بدا محيطا بأفق المدينة العامرة، ذلك القوس الذي كانت تطلق عليه قريش "قوس قزح" إله المطر والرعد، الجاثم عهد ذاك على جبل "مزدلفة"، فمسح الإسلام اسمه وأبدله "بقوس الرحمن"، ورغم ذاك، أعني رغم ارتسام قوس الرحمن في الأفق، المشعر بانتهاء أمد الهطول، إلا أن لنا أملا بأن اللقيا القادمة بالمطر جد قريبة، فمتى ملت السماء من إبداء عشقها للأرض؟!

mohammed@alroya.net

تعليق عبر الفيس بوك