متى ينجلي الزمن الخطأ؟

سلمى اللواتية

قبل ليلة من كتابة هذا المقال مررت على صفحة المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي، والتي أعتبر نفسي من متابعيها بشكل يومي تقريبا، لما فيها من درره - رحمه الله- ولمن فيها من مثقفين أصلاء يناقشون الّلب ويترفعون عن الهذر، وطالما ذكرتُ الصفحة فالواجب شكر مديرها الأستاذ الكبير مالك بن حمروش الذي يحرص دائمًا على نقاء الفكر والروح و الوجدان فيها. مررت على هذه الصفحة لأجد منشورًا يشير إلى حديثٍ للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي هذا نصه: ( وصلت إلى بيروت في بداية التسعينيات، في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجومية العالمية.أغنية واحدة قذفت به إلى المجد كانت أغنية "دي دي واه" شاغلة الناس ليلا ونهارا. على موسيقاها تُقام الأعراس، وتُقدم عروض الأزياء، وعلى إيقاعها ترقص بيروت ليلا، وتذهب إلى مشاغلها صباحا.

كنت قادمة لتوّي من باريس وفي حوزتي مخطوط "الجسد"، أربعمائة صفحة قضيت أربع سنوات في نحتها جملةً جملة، محاولة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ النضالي للجزائر؛ إنقاذًا لماضينا، ورغبةً في تعريف العالم العربي بأمجادنا وأوجاعنا ......... لم يحزنّي أنّ مطربا بكلمتين، أو بالأحرى أغنيةٌ من حرفين، حقق مجداً ومكاسب لا يحققها أيّ كاتب عربي نذر عمره للكلمات، بقدر ما أحزنني أنني جئت للمشرق العربي في الزمن الخطأ. ففي الخمسينيات كان الجزائري ينسب إلى بلد الأمير عبد القادر، وفي الستينيات إلى بلد أحمد بن بلة وجميلة بو حيردن وفي السبعينيات إلى بلد هواري بو مدين والمليون شهيد.. اليوم ينسب العربي إلى مطربيه، وإلى المغني الذي يمثله في "ستار أكاديمي".....) ولحديثها بقيّة جديرة بالمتابعة. لست أعرف حقيقةً إنّ كانت مقالتي هذه ستمر على مستغانمي أم لا؟ ولكنني أريد أن أقول لها أنني أشاطرك الوجع والألم منذ التسعينيات التي كنت فيها طالبة جامعيّة في القاهرة، وأذكر كيف كنا في ذلك العمر الصغير نصفق على ألحان هذه الأغنية وكيف كان كل الشباب من كلا الجنسين يرقص عليها جاهلا بمعاني ما يقول المغني أو دون أن يفهم ما يُقال أصلا، منذ ذلك الحين كنت أفكّر وأنا أصفق في غمرة العمر والمرحلة عن علاقة هذا الرجل بالأمير الجزائري الذي شدتني ملامحه في كتاب التاريخ، وهزتني بطولاته التي حكاها لي والدي في بعض الليالي، وهل يا ترى يمكن لهكذا جيل مائع أن يحرر أراضينا من الاستعمار القادم؟ أعترف أنني لم أكن أعي الاستعمار الثقافي والغزو الفكري كما أعيه اليوم، غير أنّي أشكر التربية الطيبة والقيم العميقة التي انتشلتني ومن مثلي من الغرق في وهم التعريف الزائف لذواتنا! ومرت المرحلة والسنون لتُحضِرَ مقولتَك الصورة أمامي بعد عشرين عاما لازال التغريب فيها يُمارَس علينا، تغريب ليس عن عروبتنا وإسلامنا فحسب؛ بل إنّه التغريب عن الحقيقة! وهو أقسى أنواع التغريب التي يمكن أن تمارس ضد أمة ليحولّها من الإنسانية إلى الحيوانية المطلقة التي ترى الحقيقة في قطع الرؤوس وسلخ الجلود، تغريب عن الحقيقة التي تقتضي من كبار هذه الأمة أن يرسموا الطرق الواضحة لأبنائهم نحو القدوات المشرفة في كل مرحلة من مراحل حياتهم، رسمٌ ينقل القدوة من المثالية التاريخية إلى الحقيقة العملية التي تقتضيها حياة اليوم وعصرنة الحاضر !

وأتساءل ومعي كل من يحمل ذات الهم ّ الأليم، ماذا فعلنا في جانب بناء القدوة وصناعة المثل الأعلى لنشء يفرض عليه نموه واحتياجه النفسي والعقلي والروحي أن يتعلق بنموذج يرى فيه قابلية الاقتداء! اسمحوا لي اليوم أيّها السادة أن أتحدث عن أعلامنا الذين حين يرحلون نقيم لهم نصب تخليد في مياديننا وهم في حيواتهم إمّا مغيّبون أو مقصَون بدعوى الضلالة والإضلال المستندة على عكازٍ عجوزٍ مائل! أو أتحدث عن قيمنا المذبوحة على أعتاب الجهل والتخلف في الوقت الذي يصيغها الآخرون في برامج ومناهج وأخلاقيات أداء وعمل تنهض بمكامن الإبداع البشري في شتى محطات الحياة! هل نحن حقا واعون للمحاولات المستميتة لتغيير وجه العالم القيمي كي يصب كله في تجاه مصلحة واحدة؟ هل قادتنا عقولنا لتقديم إرثنا الثقافي للعالم ليكون شريكا استراتيجيًا وحضاريًا في مسيرة بناء الإنسانيّة؟ أو هل استطعنا على مستوى أقطارنا الضيقة الصغيرة أن نصنع نماذج ثقافية وعلمية تصلح كقدوات للقرن الحالي والقادم؟ ترى هل نحن نخطط لذلك؟

قبل يوم فقط كنت استحث كل مخزوني الثقافي لأضع خطوطا - رجوت أن تكون واضحة - بين الخرافة والحقيقة، وبين الحسد والتفاؤل، وبين البرمجة والصناعة، والحديث الصعب كان لمتعلمين أراهم واعين! أصعق والله حين أرى أوهام السحر والحسد تقود عقول المتعلمين فتغدو أجيالنا وراءها كقطيع هائم فيما ينشغل عقل كل شاب في اليابان وكوريا وسنغافورة فيما سيضيفه غدا لمشروعه كي يكون متفردا به في العالم!!

أيّها العقلاء والله لا يقرأ أحاديثنا إلا نحن، ولا يقدر حجم المشكلة وعمق الخطر إلا نحن، ونحن كلٌّ يغني على ليلاه فمتى سنكون يدًا واحدة في تأسيس مشاريع نهضوية ترقى بجمهورنا من أناسي الشارع البسطاء؟ ترى كم مشروع ثقافي حملنا على أكتافنا إلى حيث يسكن البسطاء؟ وكم من دار أيتام دخلنا نصنع من اليتم والحرمان قوةً وعطاء؟ ونحو كم بيت امرأة أغرقتها هموم الحياة اليومية اتجهت مشاريعنا الثقافية؟ و أمّا إعلامنا ومهرجاناتنا ومحلاتنا التجارية وشوارعنا ومتنزهاتنا فهي تمارس التغريب المغفل بقصد أو بغير قصد حين تحيي كل شانئٍ من الممارسات والصور والدعايات، ويكفيك صور الأزياء لتعلم مستوى التغريب عن مفاهيم العفة والاحتشام التي يتبرمج عليها أجيالنا بالنظر إليها كلّ مرة..!! ولذا فلست عليها أعوّل اليوم أسفاً، و لكنني أمدّ يدي على مساحة الوطن لكل شريك يشاطرني الهم لنبني نموذجًا لمشروع يذهب إلى حيث لا يمكن للساكن من هناك أن يأتي، ذاك قَدْحٌ يحتاج إلى جهود متضافرة تتجاوز مجموعات التواصل الاجتماعي واجتماعات الأمسيات على نغمات العود العربي، إنّي أدعو إلى تحرير الأفكار من قوقعة التكرار هناك إلى مساحة العطاء في الميدان، كي لا يبقى المشرق العربي دوما في الزمن الخطأ!!

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك