السياسة الاقتصاديّة بين الصحوة والغفلة

عيسى الرواحي

مع حلول العام الميلادي الجديد 2016 شغلت الأوضاع الاقتصادية والسياسيات المالية المتوترة حيزا واسعا من أحاديث الحكومة والمواطن على حد سواء، وكثر ما يسمى بإجراءات ترشيد الإنفاق الحكومي والبحث عن موارد جديدة؛ جراء الهبوط الحاد لأسعار النفط، وقد حدد منتصف شهر يناير موعدا لتنفيذ بعض الإجراءات والتدابير الاحترازية التي أُعلن عنها؛ لمواجهة الأزمة النفطيّة التي ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادي.

وفي حقيقة الأمر فإنّ لدى المواطن قناعة كبيرة بأنّ ما تواجهه الحكومة اليوم وما ستواجهه في قادم الأيام، لا تكمن أسبابه في الأزمة النفطيّة وهبوط الأسعار العالمية لهذه الثروة فحسب، وإنّما هناك أسباب أسبق وأعمق لذلك وأكثر تأثيرًا فيما يشهده حالياً الوضع الاقتصادي المحلي؛ تتمثل أبرزها في التباطؤ الكبير في تنويع مصادر الدخل بشكل حقيقي وفعلي، وغياب التخطيط السليم لكثير من المشاريع، والتنظير البعيد عن التطبيق والتنفيذ في كثير من الخطط الاستثمارية والسياسات الاقتصادية للحكومة، وعدم التثمير الحقيقي لأعوام الرخاء للسنوات العجاف، وغيرها من الأسباب المعلومة التي يطول المقام لبسطها.

وليس منتصف يناير هو عهد السياسة الاقتصادية الجديدة، فالعام المنصرم 2015م قد شهد مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والتدابير المالية التي اتخذتها الحكومة مسّت أغلبها - إن لم يكن كلها - بحقوق المواطن منها: إيقاف ترقيات الموظفين، وإيقاف مشروع نظام التقاعد الجديد وعلاوة طبيعة العمل، وتقليص إجازات عيدي الفطر والأضحى إلى حد غير معهود، وإيقاف الطلبات المعتمدة المتعلقة بالقرض الإسكاني الحكومي لذوي الدخل المحدود، ومحدودية تنفيذ المساكن الاجتماعية لمستحقي الضمان الاجتماعي، كل هذا وغيره تمّ خلال العام المنصرم في الوقت الذي رأينا فيه استمرار مشوار التبذير والبذخ في أمور وجوانب لا نلمس فيها أثراً على الوطن والمواطن.

إنّ أهم ما يجب على الحكومة اليوم وفي جميع الأوضاع الاقتصادية - رواجا وكسادا- أن تتبنى منهج الإنفاق الرشيد كمنهج أصيل ضمن سياساتها المالية والاقتصادية، وترشيد الإنفاق وفقاً لما يعرفه أحد الاقتصاديين يتضمّن "ضبط النفقات، وإحكام الرقابة عليها، والوصول بالتبذير والإسراف إلى الحد الأدنى، وتلافي النفقات غير الضروريّة، وزيادة الكفاية الإنتاجيّة، ومحاولة الاستفادة القصوى من الموارد الاقتصادية والبشرية المتوفرة". لذا ينبغي للقائمين على رسم السياسات الاقتصادية بالبلاد استئصال كل إنفاق وهدر للمال العام يكون في أمور شتى لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي بلا ريب كثيرة لا حصر لها، فالمتابع للوضع يعلمها، وأصحاب الشأن والاختصاص أدرى بها من غيرهم.

لقد آن الأوان أن تستريح مسامعنا من الندوات والمؤتمرات التي تُسخّرُ لها أموال طائلة وطاقات كبيرة وبهرجة إعلامية ضخمة؛ حتى أصبحت من كثرتها مملة ذات سأم، ونسبة التنظير فيها لا يقارن بما تناله من التطبيق الفعلي، ولكنّها في حقيقة الأمر تخدم مصالح خاصة وشخصيّة لمن يقومون بإطاراتها الشكليّة والمظهرية، ويقاس على ذلك المهرجانات والاحتفالات المبالغ فيها.

وكذلك الحد من جلب الخبرات الدولية بالمبالغ الخيالية التي أصبح الكثير يراهن على أنّها لا تحقق المأمول، وأنّ هناك من الكفاءات والخبرات الوطنية ما يمكن أن تنتج أكثر وأفضل منها.

ومع مباركتنا لكل مشروع حكومي يصب في خدمة الوطن والمواطن، فإنّه يجب أن يكون هناك تصدٍ للأرقام الفلكيّة لتكلفة هذه المشاريع التي أصبح ضعف جودة العمل من سمات كثير منها رغم التكلفة الباهظة لإنشائها، وأن يكون كل مشروع وفق خطة محكمة تضبط نفقاته، والبرنامج الزمني لتنفيذه، ومساءلة كل طرف تسبب في اخفاقه وتأخر إنجازه.

ولا ريب أنّ مسيرة التنمية والاستقرار الاقتصادي لا تقع مسؤوليتها على الحكومة فحسب، فالمواطن شريك أيضا في تحمل هذه المسؤولية، وتكمن مسؤوليته بالمقام اﻷول في مقر عمله وأداء واجباته الوظيفية، وذلك بإتقان العمل واﻹخلاص فيه، وتجويده وتطويره بما يساعد على ترشيد النفقات، وتبسيط الإجراءات والمعاملات الحكومية، وتوفير الوقت والجهد والمال على المراجعين.

وأمّا فيما يخص المواطن على صعيده الشخصي واﻷسري، فبقدر ما نطالب الحكومة بمثل تلك الإجراءات التي تتمثل في حسن استغلال الثروة، والبعد كل البعد عن البذخ والتبذير والترف الذي يؤثر سلبا على مسيرة التنمية؛ فإنّ على المواطن تقع ذات المسؤولية، وهو مطالب في المقام الأول والأخير أن يكون حريصًا كل الحرص على إحكام ميزانيته وترشيد إنفاقه والاعتدال والوسطية في المعيشة مصداقا لقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) سورة اﻷعراف: 31 وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).

والمتتبع لأحوال كثير من المواطنين يراهم على شاكلة النقد الذي ينتقدون به حكومتهم؛ فالبذخ والترف والإسراف في المعيشة، وهدر المال بشكل مبالغ في المظاهر والشكليات، والاستدانة من غير حاجة، وعدم التخطيط للمستقبل، وعدم الرغبة في الادخار، أصبح من سمات كثير من المواطنين وللأسف الشديد.

لقد كثر في السنوات الأخيرة جلب العمالة الوافدة للمنازل والمزارع بشكل ملفت للنظر لحاجة ولغير حاجة، وكثر استئجار قاعات الأعراس بمبالغ طائلة في وضع كان يمكن الاستغناء عنها، وكثرت أسفار السياحة بمبالغ قد يأخذها السائح دينا أو على حساب أولويّات حياته، وكثرت سفرات العلاج غير اللازمة والضرورية بحيث يكون علاج المرض متاحاً في البلاد، وأصبح التنافس محموما وبشكل مبالغ فيه في إبراز المساكن والبيوت بمظاهر شكليّة مبالغ فيها وبأموال كثيرة تجعل صاحب المسكن يعيش في ديون سنوات طويلة، كل ذلك وغيرها من وجوه إنفاق المال في غير ضرورة - وإن كانت من خصوصيات الفرد ولا يخص أحد التدخل فيها - توجب قول كلمة النصح والتوجيه والتنبيه بأنّ اﻷيام دول، وأنّ تقلبات اﻷوضاع لا تستقر على حال، كما أنّ استقرار أوضاع الفرد اقتصاديا يعود نفعه على المجتمع بشكل عام.

إنّ الحياة الهانئة السعيدة، والرخاء الاقتصادي والاستقرار المعيشي وسبل تحقيقه، وكل تشريعات الحياة وجوانبها المختلفة، وما يعنى بشأن الوطن المواطن من سياسات وتوجهات لا يحتاج أن نجهد أنفسنا في البحث عنه، فهو موجود بين ظهرانينا، واضحا بجلاء تام في وسطية الإسلام الحنيف ومنهجيّته المعتدلة المستقيمة المتمثلة في القرآن الكريم والسنّة النبوية، يقول الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة اﻷنعام: 153.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك