المنظومة الأسريَّة في الثقافة الإسلاميَّة والمنظور الغربي!

د. يحيى أبوزكريا

يختلفُ النظام الأسري من مجتمع إلى آخر، وتلعب العادات والتقاليد دورا كبيرا في تحديد مفاهيم النظام الأسري، كما أنَّ الدين يلعب أكبر الأدوار في صياغة بنيوية النظام الأسري، وهذا ما يفسر التمايز الكبير بين النظام الأسري في الإسلام والنظام الأسري في الغرب.

ولوضع مقارنة بين النظاميْن؛ فلنبدأ بالنظام الأسري في الغرب؛ وذلك من خلال الواقع الغربي باعتباري أعيش في الغرب وعلى تماس كامل بالمعادلة الاجتماعية في الغرب، وبالاستناد إلى مجموعة من المراجع؛ أهمها الكتب التالية: "التركيب الاجتماعي" لجورج ميردوخ، و"الأبعاد القانونية للزواج والإجرائية للزواج والطلاق" لوليم كيفارت، و"العائلة في حصار" لكريستوفر لاش، و"العائلة الأمريكية في التاريخ" لكوردن ميشيل، و"مستقبل الأمومة" لبرنارد جيسي... وسلسلة واسعة من الكتب والمراجع سآتي على ذكرها في طيات البحث.

أدَّى خروج الدين من المعادلة الاجتماعية الغربية إلى إيجاد أنماط حياتية جديدة ومسلكيات اجتماعية متحررة لا علاقة لها ألبتة لا بالقيم الدينية ولا بالقيم الفلسفية، وتحوَّلتْ الأسرة من كيان اجتماعي قوامه التداخل الروحي والمادي بين رجل وامرأة يجمع بينهما عقد شرعي بحضور رجل دين أو في الكنيسة، إلى مؤسسة تجارية أو شركة قوامها المنفعة والقيم المادية دون غيرها. والنقلة الملحوظة التي حدثت في الغرب هي أن النظام الأسري الذي كان يقوم على ضرورة مباركة الكنيسة تخلى عن ذلك، وأصبح يكفي أن يطلب الرجل من المرأة أو العكس المعاشرة في بيت واحد وتحت سقف واحد، ودون أن يقيدا هذه المعاشرة، وقد يلجآن إلى إنجاب الأولاد، وهنا يحثهما النظام المدني الغربي على ضرورة تسجيل الأبناء بأسماء الأم المعاشرة أو الأب المعاشر، لا فرق، بل يتم ذلك بتوافق المتعاشرين، وقد يحلو لهذين المتعاشرين أن يلجآ إلى الزواج الكنسي بعد انقضاء عشرات السنين على عشرتهما، وبعد أن يكونا قد أنجبا الأطفال، ويحدث ذلك باستمرار في العواصم الغربية.

وقد أدَّى خروج الدين من النظام الأسري الغربي إلى التحرُّر الكامل والمطلق من كل الالتزامات؛ فالرجل يعيش مع زوجته بمنطق الشراكة؛ فكثيرا ما يقسمان حياتهما.. الرجل يدفع الإيجار والمرأة تدفع فواتير الكهرباء والهاتف، ويتم تقسيم الحياة تقسيما دقيقا يخضع للمنطق الرياضي في أدق التفاصيل، وحتى في البيت يجرى تقييد الممتلكات باسم مشتريها، وكثيرا ما يحدث أن تكون الأدوات الكهربائية للرجل والأرائك على سبيل المثال للمرأة، وهذا ما يفسر سهولة الانفصال؛ حيث يكون معلوما أن هذه الأشياء للرجل، وهذه الأشياء للمرأة، فيتم الانفصال دون معضلات.

وكثيرا ما تحبُّ المرأة رجلا غير عشيرها، فتخبر عشيرها بذلك، ويقع الانفصال تلقائيا وبدون كثير عناء، ويتوافقان على أمر الأولاد؛ حيث إذا تم رفض رعايتهما من الجانبين تقوم المحاكم عندها بالتدخل لتوزع الأولاد على الرجل والمرأة وفق حصص متكافئة، وإذا لم يكونا أهلا لرعاية الأولاد، فعندها يتم توزيع الأولاد على العوائل الراغبة في رعاية الأطفال، بإشراف كامل من المؤسسات الاجتماعية التي لها سلطة كبيرة في الغرب.

وإضافة إلى ذلك، فإنَّ المنطق العائلي الغربي يقضي بأن الرجل ليس مكلفا بإعالة زوجته اقتصاديا؛ لأنه يجب عليها كالرجل الخروج إلى أسواق العمل والبحث عن عمل، وإذا كانت محتاجة فهناك مؤسسات اجتماعية تقدم مساعدات اجتماعية للمحتاجين. وينعكس خروج المرأة إلى أسواق العمل وقضائها وقتا طويلا في الخارج مع عشيرها أو زوجها إلى تعريض الأولاد للضياع؛ حيث أصبح هذا الوضع محفزا باتجاه تعاطي الأولاد للمخدرات وبقية المفاسد. ومما بدأ ينتشر في الغرب هو التمتع بالمحرَّمات؛ حيث كثيرا ما تكتب بعض الصحف الغربية عن بنت ولدت من أبيها وما شابه ذلك من العناوين المثيرة.

وكثيرا ما يلجأ الأبناء إلى ترك ذويهم إذا بلغوا سن الثامنة عشرة، وعندها يستقل الابن بنفسه ماديا وسكنيا وحياتيا واجتماعيا، ولا تصبح له أي علاقة بوالديه، ويحدث أن يتوفى أحد والديه، فيكلف هذا الابن إحدى مؤسسات الدفن لتتولى نقل هذا الميت إلى مثواه الأخير. وسبب ذلك يعود إلى أنَّ الطفل ينشأ وسط قيم مادية خالصة ويعيش بين أبوين يتقاسمان الحياة ويحاسب الواحد منهما الآخر على قطعة خبز، وحتى مفهوم الحب في نظر كثير من الغربيين هو جنس محض، وبمعنى آخر الحب هو فعل بيولوجي مادي لا علاقة له بالوجدان، وفوق هذا وذاك في العرف الغربي حاجة بيولوجية محضة قد يحصل عليها المحتاج من الحيوان إذا أراد ذلك.

وهذا لا يعني أنَّ النظام الأسري في الغرب كله على هذه الشاكلة، بل هناك عوائل مازالت محافظة على القيم المسيحية، وتطالب بضرورة العودة إلى شرعنة مؤسسة العائلة بالقيم المسيحية، وتطالب بطرد كلِّ دخيل شهواني على الحياة الغربية، وهذا ما أشار إليه بوضوح الباحث الاجتماعي الأمريكي لاسليت بيتر في كتابه العالم الذي فقدناه ووليتل مارتن في كتابه انكسار العائلة وماكلين إلينور في مقالته العلمية بعنوان إشكال العائلة غير التقليدية.

أمَّا النظام الأسري في الإسلام، فيختلف جُملة وتفصيلا عن النظام الأسري في الغرب وفي النظام الرأسمالي؛ حيث العقد الشرعي شرط للزواج، وهناك مجموعة شروط يجب أن تتحقَّق في الزوج كما في الزوجة، ومن شأن هذه الشروط أن تحصن مؤسسة العائلة في الإسلام وتحفظ الحقوق كما الواجبات، ولم يفض الإسلام في شيء مثلما أفاض في بناء الأسرة وآليات ذلك، وقد خصص علماء الإسلام كتبا مفصلة في فقه الزواج والطلاق وتربية الأولاد...وما إلى ذلك من الكتب ذات الصلة. والذي يجمع بين الزوج والزوجة هو الإسلام، هذه البوتقة التي تحوي كمًّا هائلا من القيم والمبادئ النبيلة والرائعة والكفيلة بصيانة العائلة من التدهور وحتى مجرد الخطأ، كما أنَّ الزوجين ليسا عضويْن في شركة ذات حصص، بل هما مكلفان بإعداد نشء مستقيم للمجتمع الذي إذا تكاملت خلاياه الأولى تكامل تماما كخلايا الجسد التي إذا استقامت استقام الجسد كله؛ لذلك واجب الأب في المؤسسة الأسرية الإسلامية أن ينفق على زوجته وأولاده، إضافة إلى أنه من شروط الزواج تقديم مهر للمرأة لإشعارها بكرامتها ومكانتها.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ النظام الأسري في الإسلام يجب أن يخضع للإسلام في تفاصيل مسار العائلة، وحكمة ربط الزوجين بعقد شرعي هو أن تكون المرجعية في حياة العائلة للشرع الإسلامي الذي يضمن لكل ذي حق حقه.

وعندما بدأت المؤسسة الأسرية في العالم العربي والإسلامي تنحو المنحى الغربي بدأ يدب فيها الوهن، وأصبحت عرضة لكل العواصف التي تعصف بها؛ لأنها تخلت عن الحصن الذي يحصن الأسرة من كل عوامل الانهيار والتعرية. وتكفي إطلالة واحدة على نسبة الطلاق والحوادث العائلية في المحاكم وصفحات الجرائد لنكتشف بسهولة أن تقليد النظام العائلي الغربي والتخلي عن القيم الإسلامية الحضارية من شأنه أن يؤدي للدمار، وهو معاكس تماما للبناء الذي من أجله وجد النظام العائلي في الإسلام.

Y.AbouZakaria@almayadeen.net

تعليق عبر الفيس بوك