ربيع التعليم المنتظر

د. سيف المعمري

"الربيع العربي" خلال السنوات الخمس الماضية، شغل العالم من حولنا، وانقسم الجميع في تفسير ما يجري من حالة عدم الاستقرار في كثير من البلدان العربية إلى فرق؛ ففريق يرى أن الربيع هو المسؤول عن كل التداعيات التي حلت بالدول العربية في السنوات الماضية وقادتها إلى وضع تنموي مأزوم يحتاج إلى عشرات السنوات للخروج منه -إنْ هيَّأ الله لها فرصة الخروج والنجاة من المصير الذي ينتظرها سواء كان تقسيماً أم إرهاباً لا يدع لسكانها أي فرص إلا للهرب- وفريق يرى أن الربيع كان نتيجة طبيعية لغياب المشروع الحضاري في هذه الدول التي كانت تعيش حالة خاصة مختلفة عن بقية ما يجري من حراك من أجل صناعة مستقبل أفضل، حيث تراجع الفعل التعليمي والفكري وزادت مساحة الجهل والتخلف بدلاً من توسيع مساحات الوعي.

وفي ظل غياب المشروع الحضاري الواحد ظهرت عشرات الآلاف من المشاريع الفئوية والفردية التي شطرت الأحلام الواحدة لأبناء الوطن الواحد، وقسمت هذه المجتمعات إلى طبقات ومراتب وفئات، وأذكت نار الصدام بينها، على أسس مذهبية أو قومية أو ثقافية، أو سياسية وتحول الإنسان إلى كائن بيولوجي لا هم له في ظل هذا الواقع إلا تلبية احتياجاته البيولوجية اليومية، وأصبح إشباع البطون مقدما على إشباع العقول، وبدون بناء العقول لا يمكن بناء أي شيء على الإطلاق، لأن بناء الإنسان الجاهل يجعله خطرا كبيرا على مجتمعه حين يصبح أداة يتلاعب بها أي أحد من أجل تحقيق مآرب خاصة؛ لذا كان ضعف المشروع التعليمي أحد العوامل التي قادت إلى كل هذه التداعيات، ورغم كل التوصيفات والتحركات المتواصلة في الساحات السياسية الإقليمية والدولية، إلا أن المشروع السياسي لا يزال يثبت عجزه في إعادة انتشال هذه المجتمعات، ولا سبيل إلا للشروع في "ربيع تعليمي"، تعاد فيه الهيبة إلى المدرسة والمعلم وللكتاب، فلا سبيل آخر أمامنا إلا تنمية العقول، بدلا من الانشغال بتنمية الحقول التي وإن عثرنا فيها على نفط أو ثروات أخرى فإنها سوف تأخذ منها بأرخص الأثمان نتيجة جهلنا بالسياسة الدولية، ونتيجة تساهلنا في عمليات الرقابة والحوكمة.

حين بدأ الربيع العربي رُفعت شعارات ديمقراطية في محيط به عشرات الآلاف من الأميين، ومن كان متعلما فلا تتعدى حدود علمه إلا معرفة القراءة والكتابة، بل إن دراسات مؤسسة الفكر العربي كشفت أن الطفل العربي لا يقرأ إلا ست دقائق في العام مقارنة بـ12 ألف دقيقة للطفل في الغرب، ولم يقتصر الأمر على هذه الفجوة القرائية بل تعداها الأمر إلى انخفاض حاد في مكانة المعلم والكاتب والمفكر والمثقف والعالم وهم مفاتيح التقدم الإنسان في كل زمان ومكان، ومقابل ذلك تم خلق نماذج أخرى ليس لديهم ما يمكن أن يقدموه لهذه المجتمعات إلا خلق حالة من التزييف والانحطاط بمستوى الطموح والذوق الإنساني، ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان، ولكن أصبحت هذه الفئات التي تقود مشروع تنمية قدرات الإنسان، وتحرير ملكاته وتوظيفها في البناء والتعمير والابتكار موضع قلق وعدم ثقة، ويمكن استبدالها بفئات أخرى أجنبية حتى وإن لم تمتلك إخلاصها ودافعيتها ومهاراتها، حتى وإن استنزفت جزءا كبيرا من ثروات هذه الأوطان.

لقد أثبتت تجارب الدول التي تقدمت في مجال التعليم، العلاقة الارتباطية بين النهوض التعليمي والإرادة السياسية، وكما يقول الفيلسوف البرازيلي باولو فيريري فإن "التعليم هو عملية سياسية"، وبالتالي قد لا تنجح المحاولات الإصلاحية بدون أي إيمان سياسي بها، وربما يفهم البعض أن عودة موضوع "التعليم" إلى الخطاب السياسي في الأسابيع الماضية سواء في السعودية من خلال تعيين وزير جديد للتعليم، أو في قطر حيث عقد "منتدى الخليج للدراسات" وكان ملفه الرئيسي هو التعليم، أو إطلاق مشروع "تحدي القراءة العربي" من قبل حاكم دبي، بهدف تشجيع القراءة لمليون طالب عربي لقراءة خمسين مليون كتاب خلال هذا العام الدراسي، أو من خلال المشاريع التطويرية التي تقوم بها بعض البلدان الأخرى حاليا على أنها محاولات ربما تقود إلى ربيع تعليمي عربي يقود إلى تجسير الفجوة المعرفية التي تعيشها المجتمعات العربية، إلا أن هذه الخطاب وهذه التوجهات إذا لم تتحرك في بيئة صديقة وحاضنة لن تأتي أكلها.

.. إنَّ تحقيق ربيع معرفي عربي له متطلبات لابد أن يعيها الجميع؛ أولها: الإيمان بأنَّ التقدم لا يمكن أن يمر إلا من خلال بوابة التعليم؛ وهذا منطلق لابد أن يتفق عليه الجميع، وثانيها: إعادة هندسة المؤسسات التي تقود المعرفة والتعليم والابتكار فلا يعقل أن تكون هندسة وبناء مؤسسات تشكيل الإنسان وبنائه أقل مستوى من المؤسسات الأخرى، وثالثاً: يتطلب الأمر إعادة الاعتبار والهيبة للكلمة والكاتب والمعلم، ولقد شهدنا أنه لم يصل أي معلم عربي في مسابقة نوبل للمدرس العالمي التي سُلِّمت في أرض عربية في أمارة دبي، ورابعاً: لابد من إنشاء حواضن الذكاءات المتعددة حيث يتم تنمية قدرات أصحاب المواهب المختلفة من لديهم ملكات في الرياضيات واللغة والفن والفلك وغيرهم..إلخ، هذه الحواضن ستقود إلى رفد المجتمعات بموارد بشرية تنافسها بإنتاجها وابتكاراتها، وكما قال العالم الأمريكي جاردنر صاحب هذه النظرية بأنها وسيلة للتخلص من "التعليم الجائر" على الفرد والمجتمع والأوطان؛ لأنه لا يقدم له إلا فردا هشًّا عالة على غيره قابلا للاستغلال، وخامساً: لابد من هندسة المنهج التعليمي الذي يجب أن يقوم على حركة الطلاب بدلاً من جعلهم يجلسون على الكراسي طوال اثنى عشر عاماً، هذه الحركة هي التي ستؤسس للنهضة المنشودة لأنها حركة إنتاج وممارسة ومشاركة، فهل يعقل أن تظل النسبة الأكبر من سكان الوطن العربي على الكراسي تتلقى معرفة غير وظيفية وتتفرج على مجتمعها الذي يتغير ويتبدل في كل شيء؟ إنها الفجوة التي لابد لنا أن نعبُرها بأي ثمن، وإلا فإننا نقوم -سواء كنا نعرف أو لا نعرف- بإعداد أجيال للموت بدلاً من إعدادهم للحياة وتنمية أوطانهم.

الربيع التعليمي العربي ليس مستحيلاً؛ فطالما أنَّ هناك مجتمعات قد نجحت في بناء أنظمة تعليمية متقدمة تحتل المراكز الأولى في المسابقات والمؤشرات العالمية، إذن هناك قابلية لتحقيق ذلك، علينا أن ندرس هذه الأنظمة التعليمية بدقة من أجل أن نحدد ليس نقاط القوة فيها إنما لكي نستحضر الروح التي جعلتهم يحققون ذلك، وهذا ما وجهت إليه طلابي في السنة الأولى من برنامج ماجستير الدراسات الاجتماعية الذين أدرسهم الآن مقررًا يُسمَّى "نظريات المناهج"؛ حيث طلبت منهم الانطلاق في عملية اكتشاف كبرى لبعض هذه الأنظمة التربوية المتقدمة، حيث اختاروا سبع دول هي "فنلندا، ونيوزيلندا، واسكوتلندا، وكوريا الجنوبية، وتايوان، واليابان، وهونج كونج"، وسيقدمونها اليوم في ندوة بعنوان "المنهج المدرسي: تجارب أوروبية وآسيوية"، وهي أول ندوة ينظمها ويقدمها طلاب الدراسات العليا بالجامعة؛ حيث سيقدمون فيها أسرار هذه الأنظمة التربوية، بما يفتح لنا فرصًا للتفكير في الجوانب التي يفترض أن نتعلمها من الآخرين؛ لأن التقدم حالة متعلمة يشترط فيها ألا تمتلك وسائل الآخر فقط، وإنما أن تمتلك قلبه وعقله الذي ساعده للوصول إلى مرحلة التفوق.

لا شك أن ربيعًا تعليميًّا معرفيًّا لابد أن نعمل عليه جميعا من أجل إعداد جيل قادر على قهر التحديات المتنامية التي تواجهه، وأنه خير لنا أن نسلح هذه الأجيال بالمعرفة النقية من تسليحهم بالأفكار الطائفية والملوثة التي تقودهم إلى الموت بدلاً من أن تقودهم للحياة، وأن تهيئة مراكز البحث والابتكار والحواضن المعرفية خير من تهيئة مراكز التجنيد لهم؛ فالمعركة التي يجب أن تنتصر جميع المجتمعات العربية فيها هي المعركة المعرفية، والشيء الذي يجب أن تفاخر به هو عدد العلماء والمخترعين وبراءات الاختراع، وعدد الكتب التي تقرأ والتي يتم نشرها، وليس عدد القتلى واللاجئين.

تعليق عبر الفيس بوك