حوادث حافلات المدارس.. اغتيال البراءة بنصل الإهمال

نوف.. فتاة في عمر الزهور تلقى حتفها تحت عجلات "الباص"

 

رصد التجربة - عهود الهنائية

تتذكر أمل الجهورية- والألم يعتصرها- ذلك الحادث الأليم الذي وقع لأبنة أخيها، نوف، تلك الفتاة البريئة التي لم يكتب لها القدر أن تحتفل مع أهلها بعيد ميلادها الثامن، حيث ذهبت إلى ربها وهي في سن السابعة، بعدما تعرضت لحادث دهس تحت عجلات الحافلة المدرسية التي كانت تقلها من المدرسة الى المنزل.

تحكي أمل مشهدا، لعله الأكثر ألمًا في حياتها؛ إذ أدركت أمل المعني الحقيقي لـ"الألم"، ففي ظهيرة 24 من سبتمبر وفي نهار شهر رمضان آنذاك في ولاية صحار، كانت الطفلة نوف على موعد مع القدر، فلم تكن تدرك في صبيحة ذلك اليوم أنها لن تعود إلى حضن أمها ودفء مشاعر والدها بعدما ينتهي الدوام الدراسي. استيقظت نوف في ذلك اليوم مفعمة بالنشاط والحيويّة، نهضت من مخدعها، تنظر إلى السماء من شرفة غرفتها تراقب السحاب يسبح في السماء، تحاول أن تمسكه بأناملها الصغيرة وهي تلهو كأي فتاة في سنها، تتجه بناظريها صوب الشمس المشرقة، التي لا تزال دافئة في الصباح الباكر.. ارتدت ملابسها تأهبا للذهاب إلى المدرسة، ومن ثمّ تناولت الإفطار مع أسرتها الصغيرة، التي كانت تعيش مع الأسرة الكبيرة التي تضم الجد والجدة.

ودعت نوف أبويها قبل الذهاب إلى المدرسة، ربما لم تكن تعلم هي أو أسرتها أنّه سيكون الوداع الأخير، ربما قالت "إلى لقاء" دون أن يكتب القدر لها هذا اللقاء الأخر.. كانت تلك اللحظة فارقة في حياة الأم والأب، مع ابنتهم البكر نوف، فلم يكن يجول بخاطرهم أنّهم لن يسمعوا صوت نوف مجددًا، لم يتخيّلوا ولو للحظة أنّ هذه القبلة الرقيقة على وجنتيها ستكون الأخيرة على الإطلاق، غير أنّها كانت بالفعل كذلك.

تقول أمل إنّه في ذلك اليوم كان والدها قادمًا من عمله، ليصطحب والدتها إلى السوق، بغرض شراء ملابس العيد لنوف وشقيقاتها، إلا أنّ الأم الحنون، فضلت أن تنتظر حتى تعود نوف من المدرسة، وأن تصحبها معها في هذه الرحلة التسوقيّة الممتعة لها، ولما لا وهي الطفلة الصغيرة التي تنتظر العيد كل عام لشراء هذه الملابس الناصعة، والمتلألئة بزينتها وزخارفها الخاصة بالعيد، كما أنّ الأم حرصت على غرس حرية الاختيار لدى نوف في اختيار ما تريد من ملابس، في هذه المناسبة السعيدة.

وعندما انتصفت الشمس في كبد السماء، دقت الساعة اثنتي عشرة مرة، لتعلن عن اقتراب وصول نوف، لم تدرك الأم أنّ عقارب الساعة في هذه اللحظة، قد بدأت العد التنازلي في حياة نوف، فمع كل دقيقة تمر كان أجل الصغيرة نوف يدنو منها.. انتظرت الأم بفرحة عارمة عودة نوف من المدرسة لتخبرها بالمفاجأة السعيدة المتمثلة في الذهاب لشراء ملابس العيد، كانت الأم ترقب وصول الحافلة المدرسية من بعيد، تنتظر أن ترى الحافلة متوقفة أمام المنزل، تهمس إلى من يقفن بجوارها أن ها هي الحافلة تقترب، وأن نوف ستغمرها السعادة عند معرفة الخبر السعيد..

وفي الجانب المقابل، ومع اقتراب الحافلة إلى الحي، تأهبت نوف ونهضت من مقعدها لتستعد للنزول من الحافلة..

وفي خضم هذا المشهد، تبكي أخت نوف الصغيرة فجأة، فتضطر الأم الحنونة إلى الإسراع للاطمئنان عليها داخل المنزل، كما لو أنّ القدر يريد ألا ترى الأم بأم عينها محبوبتها الصغيرة تسيل في دمائها، مرت اللحظات بسرعة البرق، إذ نزلت نوف من الحافلة مستعدة لدخول المنزل، إلا أنّ قائد الحافلة لم يمهلها الوقت، حتى سقطت صريعة تحت عجلات الحافلة الضخمة، هرع الجميع الى المنزل يقرعون الأجراس ويدقون الأبواب، وقعت الطامة، سالت الدماء في الشارع، أصيب الجميع بالهلع والصدمة. لم تفطن أم نوف لحظتها لما وقع، هرعت إلى خارج المنزل، كادت أن تتعثر وهي تسرع الخطى، تجري وتهرول، عيناها شاخصتان صوب الأصوات المرتفعة، أشخاص يضربون أخماسا في أسداس، وآخرون يحوقلون، ويتحسرون على المشهد المأساوي.

توقف الزمن للحظات، مرّت على أم نوف كالدهر، تعطلت عقارب الساعة عن الدوران، تجمدت الصورة من حولها، لم تر الجيران وهم يجاهدون دون كلل لإفاقة نوف، لم تشاهدهم وهم يحملونها بين أيديهم، والدماء تسيل، لتخضب الأرض وكل ما حولهم بلون الدم.. الأحمر.

شاءت الأقدار أن تبكي الصغيرة في المنزل، حتى لا ترى الأم صغيرتها الأخرى وهي صريعة الأرض، ربما لم تكن لتتحمل الصدمة، أرادت رحمة الله أن تهون الفاجعة على أم نوف، أنقذها بكاء ابنتها الصغرى من رؤية أكثر المشاهد مأساوية في حياة أي إنسان، لم يشأ الرحمن القدير أن ترى أم نوف فلذة كبدها في ذلك المشهد الأليم، حيث ذهبت ضحية للإهمال والاستهتار والرعونة، ذهبت ضحية هذا الثالوث المميت..

توضح أمل الجهورية: "ما حدث في ذلك اليوم، أن سائق الحافلة توقف في منتصف الشارع، ولم يتوقف كما هو معتاد وكما ينبغي على الرصيف، فبدأ الأطفال في التدافع للنزول، ونزل الجميع بالفعل، إلا نوف، فقد أرادت الصغيرة النزول بعد أن ينزل الجميع، وفي اللحظة التي وضعت قدمها اليمنى على درج الحافلة، لم تكد تتحرك الأخرى حتى بدأ سائق الحافلة في التحرك، مما تسبب في سقوط نوف عن الحافلة لتدهسها عجلاتها الضخمة، وما زاد الطين بلة، أنّ السائق عندما سمع بصراخ الصغيرة، ولسوء الحظ، عاد إلى الخلف ليدهسها مرة أخرى، دون أن يعلم ما ارتكب من خطأ".

تضيف أمل أن المشهد كان مؤلمًا حد الفجيعة، شعُرَتْ كأن خنجرا صدئًا اخترق قلبها، بعد أن اخترق قلب أمها المكلومة.. الصغيرة نوف ممدة على الأرض، تسبح في دمائها، بللت الدماء حقيبتها المدرسية، تلطخت صفحات دفاترها باللون الأحمر، ذهبت الروح إلى بارئها، فركضت مهرولة نحوها، من خلفها أمها، جدة نوف، الجميع يصرخ لهول المشهد، ومن ثمّ خرجت أم نوف على وقع الصراخ. وتتابع أمل: لم تدرك أم نوف أنّ ابنتها صريعة الأرض، ظنت خطأً أنّ الصغيرة لا تزال في الحافلة، أخذت تفتش عنها بين المقاعد، حتى انهارت من هول الصدمة، ومن ثمّ أسرعنا في نقلها الى المستشفى على أمل إنقاذها، إلا أن طبيب الطوارئ نقل إلينا الخبر كالصاعقة، التي قضت على الجميع، "نوف ماتت"..

تجاوزت الأسرة بعد كل هذه السنوات، تلك المحنة التي ألمت بها، لكنها لم تنس السبب وراء تلك الفجيعة، فتقول أمل إنّ ذلك الحادث المأساوي يسلط الضوء على حجم الإهمال لدى بعض سائقي حافلات المدارس وعدم تحملهم المسؤولية تجاه الأرواح التي بصحبتهم، فلقد كانت نوف ضحية إهمال سائق الحافلة دون أن يتحرى السلامة المرورية، عندما أراد أن يغادر موقع إنزال الطلاب، رعونته في القيادة تسببت في وفاة نوف، بل إنّ سوء تقديره وتعامله مع الموقف، أسفر عن دهس الطفلة مرتين، كان يتعين عليه أن يتحلى بالصبر حتى يتأكد أن جميع الطلاب نزلوا من الحافلة بأمان، وأن يقوم من مقعد القيادة ليتفقد الحافلة ويغلق الباب بنفسه، بشكل محكم.

ويبقى القول إنّ مأساة نوف لم تكن الأولى، لكن الجميع يأمل ألا تتكرر مثل هذه الحوادث، لاسيما وإن كان المسؤول عنها السائق، وهي الفئة التي توجه لأغلبها أصابع الاتهام دوما بأنّهم متعجّلون في قيادتهم، ولا يتحلون بالمسؤولية الكافية خلال قيادة المركبة، ولا يلتزمون بقواعد السلامة المرورية. غير أنّه ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الجهود الحثيثة التي تبذلها الجهات المعنيّة نجحت خلال السنوات الماضية في تقليص عدد حوادث حافلات المدارس، لكنّها للأسف لم تقض عليها، فلا تزال ثقافة السائقين والطلاب دون المستوى المأمول، ولا ينبغي كذلك تجاهل حقيقة أن الأسرة والمدرسة والمجتمع بأكمله يقع على عاتقه مسؤولية الحد من الحوادث المرورية المرتبطة بالحافلات المدرسيّة.

تعليق عبر الفيس بوك