سر من الأسرار

 جمال القيسي
حين بلغني خبر وفاة والدي فرحت.
هذا خبر طريف، لا يتكرر؛ أن يموت رجل شجاع كريم الخلق بكامل بهائه وما بدل تبديلاً.
حين هاتفني شقيقي ناصر، ذات تشرين ماطر، مهما بعد فهو غير بعيد، طالباً مني ضرورة العودة إلى البيت لأنّ والدي (تعبان كثير). فهمت في تلك الثواني الخاطفة عظمة وعظيم ما وقع. قلت للمطر الهامي على وجهي الذي صار دمعة وابتسامة: هنيئاً لك يا أبي هذا المطر.
هذي دموع السماء تقول: أبو فهد أفضى إلى دنيا أخرى، وعانقت روحه الشامخة الأبدية. أثناء طريقي إلى البيت قلت لروحه المحلقة في أعالي المجد والخلود: طوبى لروحك الرقراقة وقلبك الصخر، في آن معاً يا أبي. وعدتني ألا تكسر مثال الرجل الفارس الحقيقي في نظري فصدقتني الوعد. كانت عيونك، منذ تفتح قلبي على وقعها، تخبرني بأنّك لن تموت إلا واقفاً كالأشجار، وهكذا رحلت.
فرحت يوم وفاة والدي (راضي الضيف الله). وكان أغمض عينيه في مثل هذا اليوم قبل 13 عامًا. كلا والله ليس مثل هذا اليوم، لأنّ يوم رحيله ليس كمثله يوم.
أغلق الدكتور الطيب حقيبته مقدماً تعازيه الحارة في تلك الظهيرة الباردة، ورافقته حتى ما بعد البوابة الخارجية للبيت، تمامًا عند النقطة التي كان يُشيع أبي عندها ضيوفه، ثم عدت لأبي النائم الوديع المهيب الجميل. قبلت يديه وقدميه، وطالت قبلتي على جبينه.
لم يكن أباً حنوناً ولا قاسيًا، بل بينهما. مرحلة بين القسوة والحنان لا أفهمها. لا يهمني هذا كثيرًا، يهمني هو وما هو عليه، لا أنا كيف أصنف عطاءه العاطفي.
كان فارسا، نبيلا، شجاعا، سخيا، مهيبا. عفيف اليد واللسان.
وقام بتكويني على ألا أهاب أيّ رجل سواه! وما أزال أهابه!
وأورثني سخريته اللاذعة، وطرفته الحاضرة، وقوة شكيمة في موضعها. وعلّمني أن الحياة كرامة، وعلي ألا تعبر بي ساعة لا تعزّني، وألا تصحبني مهجة تقبل الظلم، وأن أظل عيوفا لا أرى لابن حرة يداً عليّ أغضي لها حين يغضب.
عنيدا في الحق الذي لم يترك له صاحبًا سوى من يشبه روحه التي لا تجامل في ساعة الحقيقة.
قليل الكلام كان. فصيحًا إذا تكلّم. يقرأ بسهولة، ويكتب بصعوبة، ومصدر فخره، ليس سيرته الحرة الصادقة كرجل حقيقي فقط، بل الشهادات الجامعية لأبنائه والتي لولاها لولّى وجهه عنّا غير راضٍ ولا مسامح!
صلباً ما لان في صعب الحوادث. شديد الاعتزاز بنفسه، ومدمن على الإذاعات الإخبارية، (مونتي كارلو والبي بي سي تحديدًا) ويقرأ، دائمًا، ما وراء الخبر بابتسامة ساخرة، ويربط "الأخبار" دائمًا بالقول المتحسر، والضحك الأبيض والأسود، مستذكرا حرب 1967 وكافرا بالإذاعات العربية: "إيييه.. حين كنّا منسحبين، حسب أوامر القيادة العسكرية من القدس، وقد أقنعتنا القيادة أنّه ليس انسحابا بل شيء من خطة، يومذاك كنّا نستمع لإذاعة صوت العرب وهي تصدح: ها هي القوات العربية تشتبك الآن بالسلاح الأبيض مع الجيش الصهيوني".

فرحت يوم تشييعك إلى مثواك الأخير، لأني لم أسر في جنازة شارك فيها هذا العدد الهائل من النّاس، وأفخر أن مراسم الدفن وإلقاء الموعظة الدينية الطويلة وتقبل التعازي في المقبرة انتهى، وما يزال كثيرون كثيرون من موكب المشيعين لم يصل بسبب الازدحام الذي أحدثه رحيلك!
أبي كان يوصي بأشياء بعد موته فيقول بحياد، وحرص على ألا يكون شكل حديثه عن موته دراميا: حين أموت....
نقاطعه: بعد عمر طويل. فيبتسم: ها هو العمر الطويل؛ أكثر من 80 عامًا دون مرض أو عكاز. أي عمر أجمل من هذا؟
لم أكن أشعر يومها أنّه قد مات. لكن حين حمله الرجال القساة للخروج به من البيت لآخر مرة. حينذاك صرخت وما أزال أصرخ: "وين رايح يا أبو فهد. خليك خليك يابه"!
أظلم البيت من بعده، وكبرت أمي فجأة. صارت الأيام متشابهة والأعياد طعمها مُرّ.
ربما لم أفرح يوم وفاته بل اختلطت عليّ الأشياء وما تزال؛ إذ سقط على رأسي سقف المنزل وعمد البيت!
اهنأ بمرقدك أي أبا فهد فإني على عهدك ماضٍ، أصفع امبراطوريات التكبر بقلب لا يرف له جفن، وفي عيني عظائم الدنيا صغائر. أدوسها بقدمي وأمضي وعلى جبيني تاج الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك