كل مواطن هو سِنّ في آلة

د. سيف بن ناصر المعمري

جاءتني رسالة من أحد القراء يعمل مديراً لمدرسة يسأل فيها:"كيف السبيل لجعل مدرسته أفضل مدرسة في البلد"، وعندما تأملت في هذا السؤال ..تخيلت نفسي طبيباً في عيادة جاء إليها كل مدير في وزارة ومؤسسة وشركة صغيرة وأسرة يشتكي أنّه غير قادر على جعل المؤسسة تعمل بشكل جيّد، تنال رضا المستفيدين، توفر في المصروفات، وتزيد من الإنتاجية، وتكون متماسكة، وتجعل كل الموظفين يشعرون بانتماء كبير لها، لا يُمكن أن يؤثر عليه أي حدث مهما كان، وقلت لنفسي ..هل جاء هؤلاء يطلبون المستحيل؟ أم أنّهم جاؤوا من أجل أن أبث الأمل في قلوبهم المُنهكة..وأقول لهم بأنّهم قادرون على تحقيق كل أحلامهم في وجود المؤسسة "النموذج" في البلد، وبعد أن قابلت كل واحدٍ منهم ..طلبت منهم أن يجلسوا معًا في غرفة واحدة لمدة ساعة قابلة للتمديد لو رغبوا ..من أجل أن يبحثوا عن حل وعلاج لما جاؤوا من أجله .." فنظروا إليّ باستغراب شديد جدًا ..وبانت في وجوهم الدهشة وبعض الإحباط ..ووقف أحدهم وقد تغيّرت معالم وجهه ..قائلاً:

- ما جئنا إليه إلا ونحن متألمون..ونبحث عن ما يُمكن أن يُساعدنا إن لم يكن في استئصال الألم ففي تخفيفه وتسكينه.. ولكن يبدو أننا قصدنا الرجل الخاطئ ..وأننا أخطأنا بمجيئنا هنا ..

وقاطعه آخر بنبرة حادة:

- كيف تطلب منّا حلاً، ونحن جميعناً نشعر بأننا نحتاج إلى من يُساعدنا لقد استنفذنا كل حلولنا خلال السنوات الماضية، جربنا كل شيء من أجل النهوض بمؤسساتنا، ولم نفلح في إحداث أيّ تغيير، بل بالعكس أنا أشعر أن مؤسستي أفضل في السابق عما هي عليه في الوضع الراهن، رغم الحوافز الأخيرة التي قُدِّمت لجميع الموظفين.

ويؤكد ثالث على هذا الكلام :

- مع كل الحوافز التي قدمت للموظفين ..ورغم التساهل معهم خلال ساعات الدوام الرسمي، إلا أنّ المستفيدين يشتكون كثيراً من مؤسستي ..بل إنّهم يصفونها بأوصاف فيها كثير من السخرية والاستخفاف..وكلما التقيت بأحد فاجأني بأحد تلك الأوصاف من أجل أن يُثير حفيظتي، فماذا أفعل ..أشعر أن كل شيء لا يُجدي ..حتى تشديد القوانين لم يُعد مجدٍ، لا أحد يكترث حتى لو رفعت القانون في وجهه.

ويبدو أنّ الحديث عن القانون شجَّع المرأة التي تجلس على الزاوية وقالت:

- وصلتني شكوى على أحد الموظفين الميدانيين. وقال مديره فيها إما أن استقيل أو أن تجدي له حلاً ..الوضع لا يُطاق ..وهذا موظف لم يعد يحترم أي شيء، ولا يستمع لأيّ أحد..ولقد جربت معه كل الأساليب القانونية ..وقررت أن أذهب إلى هذا الموظف..وعندما وصلت كان يقف متفرجاً في أحد الأماكن..ينظر إلى الذين يعملون ..فوصلت وألقيت التحية، فنظر إليّ ..وأجابني بنبرة لا يوجد بها احترام:

- ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟ ..وأنت عادة لا تغادرين مكتبك الفاخر.

- جئت لكي أتحدّث معك..

فنظر إليّ برهة باستخفاف وذهب دون أن يلتفت. في ذهول مني ومن جميع من كان معي ..فصرخت حتى يسمعني:

- سوف تفصل قريبًا،

وهنا التفت إليّ بنبرة فيها تحدٍ:

- لو استطعتِ افعلي

حاولت أن أفعل ..لكن لم استطع كما قال. وتناقل الجميع ما جرى. وأصبحت هذه الحادثة تطاردني أينما ذهبت.. وحتى أكون صريحة لم يعُد لحظتها يهمني العمل والالتزام ..بقدر ما أصبح يُهمني كرامتي وكبريائي بعد أن تعرضت لهذا الإذلال ..وأنا التي بيدي السلطة التي تخيلت أني استطيع أن أضبط بها الجميع.

وقال أحدهم وكان يجلس بطريقة فيها بعض الترفع والاصطناع:

- هنا المشكلة التي لا يعرفُها أحد ..الكل يُطالب بمؤسسات منتجة وفعّالة.. ولكن هذه هي نوعية البشر الذين يعملون فيها ..لا يفتقدون فقط للدافعية للعمل ..والرغبة في الإنتاج ..بل يفتقدون لأهم القيم الإنسانية وهي احترام المسؤول.. يؤسفني أن أقول للجميع هنا ..أنّه لا فائدة عودوا إلى مؤسساتكم ..وتأقلموا مع الواقع فيها ..لا تبحثوا عن التغيير ..فالقادم أسوأ ..لا تفتحوا باباً على أنفسكم ..قد تعصف بكم الرياح التي تدخل منه.

خيّم السكوت على الجميع.. وكأن هذا الكلام بثّ اليأس في اللحظة التي كان هؤلاء الذين جاؤوا يبحثون عن الحل ..يحاولون أن يفكروا بصوت مسموع ..لعلهم يهتدون إلى حل مشترك، وعندما أطرق الجميع ..قلت لهم محاولاً أن أكسر هذا الصمت ..الذي قد أعاق تدفق هذه الأفكار، هل لي أن أسئلكم سؤالاً؟ ودون أن انتظر إجابتهم قلت:

- ماذا عنكم أنتم؟

فرد أحدهم:

- ماذا تقصد بهذا السؤال؟

- قلت كل حديثكم هو إلقاء اللوم على الموظفين ..وأنهم هم سبب كل الإشكاليات التي تعاني منها مؤسساتكم...وأشعر أن هذا هو نصف الحقيقة ..وأن النصف الآخر منها مرتبط بكم، أما إذا كنتم مؤمنين أو تدّعون الإيمان بأن ما ذكرتموه هو الحقيقة فاعتقد أننا لن نصل إلى أيّ حل ...لأنّ مؤسساتكم أشبه بآلة لا يمكن أن تعمل بشكل جيد إذا تعطل سِنّ فيها.

فقالت تلك التي تركها الموظف ورحل ..

- ما يظهر هو أن الآلة تعمل..وهناك ضجيج وحركة يومية..وأصوات هنا وهناك..أناس يدخلون ..وآخرون يخرجون ..ولكن في الواقع لا يوجد إنتاج كما هو متوقع ..مما يشعرني أن أكثر من سّن بها متعطل عن العمل.

فقال المترفع في هيئته بنبرة ساخرة:

- من قال إن أسنان الآلة متعطلة! وكل سِنّ تحول إلى ناب كبير متأهب لأن يفترسك كل ما طلبت منه شيئاً أو ألقيت عليه أمراً.

فضحك الجميع على هذا التعليق ..وكان هذا مؤشرًا جيدًا على تخفيف حدة الجو المشحون الذي ساد المكان ..وقلت لهم هل أقول لكم ما هو الحل.

رد عليّ أحدهم:

- حمدًا لله أن لديك حل ..نحن فقدنا الأمل .حين قلت لنا أجلسوا في غرفة لوحدكم

أجبته

- إنما أردت منكم أن تتكلموا حتى ..تدركوا شيئًا ما.

بصوت جماعي هل ستعود إلى الكلام الغامض مرة أخرى ..قل لنا ما الحل إن كان لديك حلاً واترك عنك هذه المراوغة.

فأخذت كرسياً في وسط الغرفة.. ووضعت طاولة صغيرة ..وضعت عليها ورقة.. وقلت لهم اقتربوا ..فكتبت لهم على الورقة

- إنّ أيّ مؤسسة ووطن عبارة عن آلة لكي تعمل بشكل جيّد لابد أن يعمل كل سِنّ فيها، وعلى الجميع أن يُدرك أنّه في أيّ مكان فيها ..لابد أن يعمل حتى لا تتعطل الآلة ..وإذا قصر أو تقاعس فعليه أن يدرك أنّه يؤثر على إنتاجية هذه الآلة ولا يمكن أن ينهض وطن لا يدرك مواطنوه سواء كانوا مسؤولين أم موظفين أنّهم أعضاء في منظومة إنتاج كبرى تتعطل وتتدهور إذا لم يعملوا بشكل جيّد، وحين تعود الأسنان إلى مواقعها تأكدوا أنّ كل شيء سيتغير ..هكذا هم اليابانيون والكوريون وغيرهم يفخرون بأنّهم أسنان في آلة وطنية تنشد التقدم للجميع."

خذوا صورة من هذه الورقة ووزعوها على موظفيكم وطلبتكم وأسركم وكل من تلتقون به.

تعليق عبر الفيس بوك