وعاد عازف البيانو

د.سيف المعمري

قرَّرتُ نهاية الأسبوع الماضي أن أُحدث تغييرا كان لابد منه في الجدول المزدحم كل أسبوع، خاصة في الأشهر الماضية التي كنت فيها أتابع مجريات الظاهرة الانتخابية في السلطنة، أشهر كان فيها كثير من الضجيج حول قضايا كثيرة، نقاشات أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى بعد أن ظهرت النتائج، كان بداخلي شعور قوي لاقتناص لحظة سكينة من كل شيء، فلا شيء يعادل هذه اللحظة في زمن تفتقد فيها الأشياء معانيها، لكن ليس من السهولة الحصول عليها في وقت لم يعد الإنسان قادرا فيه على العزلة، رغم الحاجة الكبيرة إليها للتفكير في ما مضى، والتدبر في ما سيأتي، وكان بداخلي نداء يقول لن تستطيع أن تنعم بمثل هذا اللحظة، فهناك أشياء كثيرة لابد أن تنجز، وهناك أوراق لمؤتمرات تنتظر أن تغلق ملفاتها، ودعوات لإلقاء محاضرات بحاجة إلى قرار، والمجلات الدورية الثقافية والفكرية التي صدرت في أكتوبر التي لا تزال تحملها في حقيبتك اليومية، وهناك وهناك الكثير ..الذي لا يمكن أن تدير ظهرك له لكي تنعم بمثل هذه اللحظة.

تذكرت لحظتها ذلك الطبيب الشاب الذي كان مستلقياً على السرير الوحيد في عيادته ذات مساء شتوي من مساءات وارسو حين طرق باب العيادة على غير العادة في ذلك الوقت، فأيقظه من السكينة التي كان ينعم بها بعد يوم عمل طويل قابل فيه كثير من المرضى الذين كانوا يتطلعون إلى كلماته التي تبعث في نفسهم الأمل بالشفاء، والأمل بحياة دون متاعب، ينتظرون أن يقول لهم كلاما مختلفا تماما عمَّا يجده ويشاهده من أعراض بهم، هم يعرفونها ويدركون آثارها، كانوا يودون أي شيء إلا الحقيقة التي يدركونها؛ ذلك سيبث شيئًا من السعادة في أنفسهم المتعبة والمنهكة، كان يغمض عينيه محاولاً تنظيف ذاكرته من كل ما قاله.. وما سمعه خلال اليوم حين طرق الباب، فأيقظه هذا الطارق الذي لا يعرف ما الذي جاء به ليفسد عليه اللحظة التي يحاول فيها أن يستعيد نفسه كل يوم.

فتح الباب ودخل هذا الرجل الذي لم يتمكن من التعرف على ملامحه المختفية في الملابس الثقيلة التي كان يضعها، ولم ينتظر منه أن يسأله حيث دخل بسرعة وألقى بنفسه على السرير الموجود، وأرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه، في وقت كان هذا الطبيب الشاب يقف في ذهول من زائر الليل المتخفي، شعر ببعض الخوف للوهلة الأولى ولكنه لم يلحظ أي ملامح عنف تبدو في ملامحه، ودارت خلال ثوان ألف فكرة بداخله في مَنْ يكون هذا الرجل الذي يجلس أمامه بتلك الهيئة المثيرة للاستغراب والشفقة، في وقت يغرق فيه معظم سكان وارسو في نوم عميق.

في اللحظات التي كان فيها هذا الطبيب ينتظر بلهفة أن يعرف هذا الذي ساقه هذا الظلام إليه، نام هذا الرجل الذي يبدو أنه كان متعباً أو مهموماً، وآثر أن يتركه دون أن يوقظه ربما كانت حاجته للراحة والنوم أكثر من حاجته للطبيب، ولم تطل فترة نومه حيث استيقظ.. وقال للطبيب كلاما لم يسمعه طوال حياته، حيث قال: "أشكرك يا ولدي فقد شعرت بالأمان عندك ونمت.. وهذا لم يحدث في كل حياتي.. ولكنَّ شيئًا ما في هذه العيادة وأشياء أخرى في عينيك أشعرتني بذلك.. وهي أيضا رغبتي في أن أجد مكاناً واحداً آمنا، وإنسانا واحدا أميناً".

كان الطبيب مطرقا وهو يسمع هذا الكلام الذي لم يقله أحد له من قبل.. وتبددت بداخله كل الأفكار عن هذا الضيف، الذي واصل حديثه بنبرة فيها آلم.. وقال:

- الآن سأشرح لك ما بي، وأترك لك التشخيص.. وأحضر الطبيب ورقته، وبدأ هذا المريض المجهول يتحدث عن آلامه المتعددة، وحين رفع نظره وجد هذا الطبيب حائرا معذبا في كل ما سمعه، وكأن كل هذه الأوجاع انتقلت إليه. وبعد برهة ساد فيها الصمت، اقترب الطبيب وراح يفحص كل جزء في هذا المريض، وبعد أن انتهى من كل ذلك التفت للمريض وقال له:"سيدي دواؤك ليس عندي؛ لأنَّ داءك ليس عندي، وما قلته لا تتحدث عنه كتب الطب وإنما صفحات الأدب والفن، علاجك أن تعود إلى شيء كنت تعمله.. أن تعود إلى بيت قديم كنت تعيش فيه، عد إلى ما كنت عليه يا سيدي، وربما تتعافى من كل هذا الألم".

وما إن سمع المريض هذا الكلام.. وقف وشكر الطبيب على صدقه وأمانته، وهمَّ بالخروج حين قال له الطبيب:

- هل لي بسؤال صغير؟

- تفضل، هل تود معرفة شيء آخر ربما يغيِّر تشخيصك لحالتي؟

- لا، فقط أود أن أعرف من أنت؟

فأجابه بنبرة جادة بها امتنان:

- ليس من المهم أن تعرف من أنا، بقدر ما يجب أن تعرف أنك ساعدتني على أن أنقذ نفسي من الانحدار، وأن اتخذ قرارا كنت مترددا فيه، أعدك أني سأعود إلى شيء أحبه كثيراً.

قال له: "وداعا"، ورحل ولا يزال الطبيب يقف في ذهول من كل ما جرى في هذا الليل البارد.

وحين وجد نفسه في الشوارع الهادئة في ذلك الوقت من العام 1919م، شعر بروح جديدة تسري بداخله، وتذكر يوم 16 يناير عام 1919م حين حصلت بولندا على استقلالها حيث اختير رئيساً لوزرائها، واستعاد اللقاء الذي دار في نفس العام مع جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي استقبله بكل دفء وحميمية وقال له: لي الشرف أن التقي أستاذ البيانو العظيم.

فرد عليه مندهشاً: ولكني أزورك الآن كرئيس لوزراء بولندا.

- سيد البيانو الآن رئيسا لمجلس الوزراء! يالله ما هذا الانحدار.

وأردف قائلاً:

- كنت موسيقاراً تؤلف الأوبرا والسيمفونية يا آجناسي بادروفسكي، ورضيت أن تكون رئيسا للوزراء... الله جعلك موسيقارا والشعب جعلك رئيسا للوزراء... الشعب يقتل الكثير من أبطاله... لكن الله يهب الخلود كل أبطاله؟ فما هذا الانحطاط؟

فهم أخيرا رسالة سياسي متذوق للفن، وقرر أن يعود إلى ما كان يفعله، عاد للبيانو وراح يتنقل بين عواصم العالم، وكسب مليون دولار.. قرر أن يتخلى عن البطل الشعبي وأن يكون البطل الإلهي، وقال أحدهم يومها على المرء أن يكون رئيسا للوزراء حتى يكون موسيقاراً ناجحاً، ورد عليه آخر: على المرء أن يتجنَّب الانحدار حتى يكون شيئا مهما، وقلت وأنا أغلق هذا الكتاب في مكتبتي الكبيرة ما أجمل العودة إلى ممارسة شيء نحبه!! ما أجمل البعد عن الضجيج الذي لا يتيح السكينة التي نحتاجها لنعرف ما يجب علينا فعله!!

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك