اسمها انتفاضة.. لكن عنوانها مجهول

فؤاد أبو حجلة

في اليوم الأول للانطلاقة الشعبية الفلسطينية الثالثة قلنا إنها انتفاضة.. ولكن لم يصدقنا أحد، وكانت التقديرات أن فلسطينيي الضفة منهمكون تماما في نمط المعيشة الذي رسخته في الضفة سلطة عمدت إلى ربط مواطنيها بقضاياهم المعيشية اليومية وتحويلهم إلى أسرى للنمط الاستهلاكي الذي عزَّزته قروض البنوك ومشاريع الإسكان والوظائف السهلة في الجهاز الحكومي.

تناولت التقديرات أيضا يأس الشارع الضفاوي من أداء الفصائل وانقسامها، واستيعاب الضفة لتجربة غزة ورغبة الضفاويين في تجنب التجربة الغزية وعدم استعدادهم لسداد فاتورة الدم التي جاد بها الغزيون!

بالطبع، لم تكن التقديرات دقيقة ولا واقعية لأنها احتكمت إلى قراءة كلاسيكية ترى المشهد من خلال تعبيراته السياسية فقط ولا تلمس مستوى القهر والكبت الجمعي الذي تراكم في الضفة طيلة السنوات البائسة من عمر أوسلو.

تبيَّن أنَّ القروض البنكية ومشاريع الإسكان والوظائف الحكومية لا تلغي الحس الوطني ولا تضعفه، وتبيَّن كذلك أنَّ اليأس من أداء الفصائل لا يعني العجز عن اجتراح البدائل، وتأكد أن في الضفة توق للصدام مع الاحتلال حتى لو لم تر الفصائل أن التوقيت السياسي مناسب.

قلنا إنها انتفاضة، وليست أي شيء آخر. ليست مجرد هبة، ولا هي فورة غضب مؤقتة، ولا أعمال عنف كما تسميها إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهما في النظام العربي. والأهم من كل ذلك أنها وإن بدأت بمبادرات فردية متفرقة، إلا أنها تحولت إلى الالتزام بنسق موحد في المقاومة عبرت عنه بتوحيد الأسلوب (الطعن والدهس) والانتشار الذي شمل جنوب الضفة وشمالها والعمق الإسرائيلي مع احترام مركزية القدس للدلالة على أن توقيتها السياسي والنضالي غير مطروح للاستبدال بأي توقيت آخر.

يثبت الآن أنها انتفاضة ثالثة قادرة على الاستمرار وعلى التطور، وعلى إنتاج مضاداتها الحيوية في مواجهة محاولات وقفها وإجهاضها، سواء من خلال الجهد الأمني الفلسطيني الساعي إلى وقف الحراك الشعبي المؤيد والمتصاعد والمتزامن مع التصعيد الميداني لحرمان الانتفاضة من غطائها الشعبي، أو من خلال الصمت الفصائلي المخجل والذي يصل إلى حد التواطؤ مع السلطة وشركائها العرب ومع الاحتلال وحلفائه الإقليميين والدوليين للحفاظ على على الوضع المزري في الضفة.. وفي غزة أيضا.

ويثبت الآن أن المنتفضين محصنون ضد محاولات الاختراق وتفريغ المقاومة الشعبية من محتواها، وليس في الضفة من تعنيه اتصالات التهدئة التي يقودها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ولا من يهتم بتصريحات مسؤولي السلطة الحاكمة عن شروط العودة إلى المفاوضات الأوسلوية، ولا بالخطاب التبريدي لوسائل الاعلام الفلسطينية الرسمية، وعناوينها المحايدة التي لا ترتقي إلى قدسية الدم وتبدو وكأنها تعبر عن واقع دولة اسكندنافية!

قلنا إنها انتفاضة، ونزيد اليوم بأنها تستعصي على التوجيه، لأنها لم تنطلق بقرار لكي تتصاعد أو تخفت أو تتوقف بقرار؛ سواء كان القرار سلطويا أو فصائليا. وقد استنفذت السلطة كل ما لديها من وسائل لـ"وقف العنف" ولم تنجح لا في وقف العمليات ولا في إنهاء الحراك الشعبي المؤيد للمقاومة، وإن تمكنت من لجم غضب موظفيها فإنها لن تستطيع أن تفعل ذلك إلى الأبد، كما لن تستطيع لجم غضب الطلاب المتمردين بمجموعهم على سياسية السلطة والرافضين لأدائها في إدارة الصراع أو الحفاظ على حالة اللاصراع أو حشر المشروع الوطني الفلسطيني في الأوراق الصفراء المعدة للقاءات التفاوضية.

وهي انتفاضة استنزاف للعدو، ترد بطريقتها على الجنوح الجمعي الإسرائيلي نحو اليمين الإرهابي، وعلى الخيار الإسرائيلي "الديمقراطي" الذي ينتج حكومات مغامرين ومستوطنين وإرهابيين وهواة سياسة يتَّكئون على أوهام وأساطير تافهة لا يصدقها إلا التوراتيون ومن يعترف بهم ويصدق أساطيرهم في المحيط العربي والاسلامي وفي الدوائر اليهودية التي تصنع القرار الأمريكي والغربي.

اسمها انتفاضة، ولكن لا عنوان لها، ولا أحد يعرف من يحركها ومن يقودها ومن يملك قرارها، لذا فإن وقفها بقرار مستحيل. وإذا كان الإسرائيليون وحلفاؤهم الأمريكيون وبعض العرب قد استطاعوا في السابق الضغط لوقف المقاومة من خلال الضغط على "الأبوات" الذين كانوا يتصدرون المشهد، لكن هذه الانتفاضة لا أبوات لها، لكن لها أب شرعي ووحيد هو الشارع الفلسطيني.

وإذا أراد كيري إقناع الفلسطينيين بـ "وقف أعمال العنف"، فإن عليه أن يلتقي فلسطينيي الضفة وغزة واحدا واحدا، لأن السلطة التي سيلتقي مسؤوليها لا تستطيع تحقيق هذا الهدف، وكذلك سلطة غزة التي يتم الضغط عليها من خلال أطراف إقليمية.

هذه الانتفاضة أولا وأخيرا، فصل جديد من فصول المقاومة الوطنية الشعبية.. ولا مرجعية لها إلا الشعب. ليس هذا خطابا شعبويا، بل محاولة لقراءة المشهد الفلسطيني كما هو وبلا رتوش، وإن كان لدى كيري ما يطلبه فإنه يطلب الحل ممن لا يملك الحل ولا القدرة على تحقيقه.. وفي جولاته القادمة سيعود خائبا مثلما عاد من سبقوه.

تعليق عبر الفيس بوك