حاجة الأمة إلى قيم الحوار والقبول بالتعدد

عبد الله العليان

لا شك أنّ التعدد الثقافي عبارة عن تعدد في مسارات مختلفة تسلكها الأمم بمجرد السعي لسبر أغوار الأفكار، هذه الحركة تشبه حركة الماء المراق على الأرض عندما يأخذ بالانتشار بكل الاتجاهات الممكنة ما لم يمنعه مانع؛ فالفكر يتحرّك في الفضاءات التي تواجهه ما لم تحد من حركته موانع، كما أنّه قابل لأن يتوجّه وجهة خاطئة إذا ما تمّ فرض هذا التوجه عليه، وإذا وضعنا في اعتبارنا علاقة هذا الفكر بحركة الواقع، وكونه القوة التي تجر الحياة البشرية وراءها بأي اتجاه سارت، عرفنا خطورة وأهميّة عملية تشكيل الأفكار وخطورة الأغلاط التي يقترفها الوعي وهو يحدد علاقته بموضوعاته، ومن هذا المنطلق فإنّ الحوار الثقافي يأتي بثمرات عديدة تكتسب من بعدها الانفتاحي على الآخر، ويشكل النواة الصلبة للعمل الثقافي الجاد الذي يتراكم ويتواصل لخلق حالة ثقافيّة بصفات جديدة وعقلية حضارية تمارس القطيعة المعرفية مع تلك العقلية الضيقة التي لا ترى في الوجود إلا لونين إمّا أسود أو أبيض.. ولذلك فإنّ الحوار الثقافي ليس تصدعاً في الذات الثقافية، بل هو إثراء لها وإضافة نوعيّة إلى بنائها وسياقها المعرفي، وأنّ أهم ما تمارسه عملية الحوار هذه أنّها ترفع الأوابد عن الإبداع وآفاق الثقافة الجديدة. من هنا تبرز ثقافة التفاعل والتنوع كنتيجة للحوار في مقتضيّاته العديدة وكثمرة للقبول بالآخر ومحاورته، بهدف توطيد جسور التواصل، وفي غياب الحوار الثقافي نفتقد بالتالي إيجابيّاته وثمراته الكبرى، وتثمر في مقابله ثقافة الاستبداد بحديث يقود المجتمع إلى حالة سلبية من عدم التوازن وعدم الترابط، وبالتالي وضع المجتمع في إطارين؛ إمّا التصادم بين الأفكار والاتجاهات المتعارضة والوصول للصدام المادي، أو اضمحلال الكل في فكر واحد واتجاه تسلطي منفرد؛ مما يعني انقراض الإبداع، وموت التنوع، وإقصاء الاجتهاد، والتوقف التام عن الحركة الحيوية المستمرة. أيضاً فإنّ الاستبداد ( يتناقض) مع الحوار، فمع وجوده (يتراجع) الحوار؛ لأنه يمثل اعترافاً بالآخر، وبالتالي إذعاناً للتعددية والتنوع، وهذا أمر ترفضه الديكتاتورية، وفي نفس الوقت فإن قطع الطريق أمام الحوار يقود تدريجياً لتسلط الرأي المنفرد، وإقصاء الرأي الآخر، فالحوار الثقافي يثمر أيضاً ثقافة الانفتاح المحضة ضد الاختراق، ذلك أنّ الانغلاق ـ كما يقول د. محمد عابد الجابري ـ "موقف سلبي غير فاعل. والطريقة الإيجابية للتحصين الذاتي أن يكون الحوار الداخلي قائماً ومترابطاً وبالتالي سيكون متماسكاً حتى في حالة عدم التكافؤ في القدرات والإمكانيات المختلفة بيننا وبين الآخر، مع وجوب إرساء ديمقراطية يتم بها وفي إطارها تحرير الثقافة من السياسة وذلك برفع جميع القيود عن حرية التعبير التي من دونها لا تفكير ولا حوار ولا إبداع، فالاستقلال الثقافي يبدأ من استقلال الفكر، وليس هناك من بديل للفكر المستقل غير التبعيّة للغير أو الجمود على التقليد. والحوار الذي توفره الديمقراطيّة الحقة في إطار تكافؤ الفرص وضمن الاستراتيجية الثقافية.. هو وحده القادر على أن يحفز عملية "التجديد من الداخل، عملية تبيئة الحداثة وجميع مكتسبات الفكر الإنساني المعاصر بالصورة التي تجعل من الاتصال والتواصل مع الثقافات الأخرى عصر إغناء وإخصاب، لا عامل استلاب واستسلام".

ومن ضمن ما قام به الإسلام عند انطلاقته العظيمة، أنّه اتخذ الحوار طريقاً إلى الإنسانية، فأثمر هذه الحضارة العملاقة التي تفاعلت مع كل الحضارات في ذلك العصر "بوتيرة لا سابق لها في تاريخ البشر. فتوسعه في آسيا كما في إفريقيا وأوروبا قد أتاح له أن يكون بوتقة عملاقة انصهرت فيها ثقافات عدة. وهكذا نشأت حضارة أصيلة عالمية الطابع، متخذة العربية لغة مشتركة فدور الحوار أنّه يساهم في التعايش مع ثقافة الآخر وفكره ورؤاه من منطلق القبول بالتعدد الثقافي والإقرار بها، وهذا في حد ذاته غنىً للثقافة نفسها، وقوة لعناصرها الذاتية، يضاف إلى ذلك أنّ نظرتنا للقبول بالآخر والتعايش معه تعتبر جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا وحضارتنا وديننا الحنيف، ومن المهم تعميم ثقافة القبول بالآخر والتعايش معه والدفاع عن حقه في التعبير ما دام يلتزم القوانين والأنظمة المرعية، وهذا ما يدفعه أيضاً للقبول بالحوار الثقافي والتعايش معه، بما ينمي التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب من خلال هذا التفاعل، ومع أنّ لكل أمة سلمها الحضاري، وحيزها في هذا السلم ودرجته، إلا أنّ هذا التفاعل يتنامى مع الحوار الثقافي، ويترك أثره وتأثيره بالتراكم الثقافي، ويكون أقدر على الثبات والتأصيل، والأقدر أيضاً على الحوار الثقافي والحضاري مع الحضارات والثقافات الأخرى بحكم تفاعلها الثقافي معهما.

حيث يتفق عليها المجتمع من خلال التشريعات والقوانين واللوائح، لتشكل جزءاً لا يتجزأ من كيانها الشخصي والمجتمعي، وأصبحت أنماط سلوك متعارف عليها، وقد تكون قيماً مرحلية تنعدم خواصها بمجرد انقضاء المرحلة الزمنيّة التي تواجدت فيها تلك المفاهيم. من هنا فإنّ القيمة تدخل في صميم التكوين الثقافي الجمعي والفردي على حد سواء، لأنّ الثقافة المميزة لأية مجموعة توضع على شكل مفاهيم وقيم وأنماط سلوك، ومنظومات معرفيّة تحققت لدى أنساق متتالية من الجماعات البشريّة عبر مراحل متعددة. ومن ثمرات الحوار أيضاً في الثقافة أنّ هذا الحوار يسهم مساهمة إيجابية في الانفتاح السياسي، أو على الأقل الاقتراب من الديمقراطية المختلفة، وهذه الديمقراطية ـ بغض النظر عن المسميّات والمصطلحات ـ تقترب كثيراً من مفهوم الشورى في الإسلام من حيث التعدد في الآراء، والاختيار الحر النزيه للأشخاص الذين يتصدون للعمل العام، وكذلك القبول بنتائج الانتخابات.. إلخ: حتى الشيخ أبو الأعلى المودودي "وهو أكثر العلماء المعاصرين انتقاداً لبعض النظريات الغربية بما فيها الديمقراطية، قال في كتابه "مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة": كان الصحابة أكثر حباً للديمقراطية وأشد الناس تمسكاً بالحرية الفكرية ولم يكن الخلفاء يكتفون باحتمال نتائج الحرية الفكرية من قبل الناس، بل كانوا يستثيرون هممهم. ولم يدّع أحد من الصحابة أنه لا يخطئ. وأبو بكر هو القائل: "هذا رأي فإنّ يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني واستغفر الله. وعمر هو القائل:" لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة، وفي وجود ثقافة الحوار ومعطياته وتحدياته الاجتماعية والفكرية فإنّ الإبداع الحقيقي في الثقافة ينمو ويزدهر ويثمر بالتالي نتاج أصيل، ذلك أن النواة الحقيقية للإبداع هي التفاعل " الخلاّق بين المثقف وواقعه. وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسج واللحظة التاريخية. فتفاعل المثقف مع الواقع لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق تلك المقولة السلبية ليس بالإمكان أبدع مما كان. فالتفاعل الذي نعنيه هو التهيئة اللازمة للشروط النفسية والعقلية، لجعل الأديب أو المثقف يستوحيان من الواقع الأعمال الأدبيّة والثقافيّة، كما أنّ الأرض الخصبة التي تؤهل الأديب أو الفنان لعمليات الإنتاج الأدبي أو الثقافي المبدع، هي التي تشكل الرهان الإبداعي المبتغى في عملية البناء الثقافي، ولكي يكون المنجز عملية واعية في أفقها الصحي والانفتاحي للرؤى والقضايا الوطنية والقومية، وفي مسارها المنسجم مع راهنها بظروفها الإيجابيّة والسلبيّة بعيداً عن الأطياف الخادعة والمقولات الواهمة.

كما أنّ منطلقات الحوار الثقافي تثمر في مسار الديمقراطية السياسية وتفرعاتها وآلياتها المختلفة، أشخاصاً واعيين للمعترك السياسي والقادرين على الفرز والتقييم الواعي بين الغث والسمين، في الإسهام التطوري للديمقراطية ومستلزماتها في الانفتاح على المجتمع سياسياً، عن طريق التدرج الهادئ بعيداً عن حرق المراحل، أو القفز على الواقع حتى يمكن أن تنجح الخطوات الديمقراطية ـ الشوروية ـ في انطلاقها العقلاني الرزين بعيداً عن التقليد أو الاستنساخ المسخ لثقافة الآخر وتطوره الديمقراطي. فلا شك أنه يفتح آفاق الحرية والإيمان بها باعتبارها هبة إلهية من الخالق عز وجل، والحوار الثقافي يجعل من هذه القيمة العظيمة مرتكزاً للتعاطي الإيجابي مع قضايا الحق والحرية والعدل، والحريّة على هذه الأسس متوازنة في الإسلام، حيث منح "الحرية الفردية في أجمل صورها، كما يمنح المساواة الإنسانية في أدق معانيها، ولكنه لا يتركها فوضى، فوضع (مبدأ التوازن) في كفتّي ميزان، أي التوازن بين متطلبات الفرد، ومتطلبات المجتمع، حيث لا يطغى أحدهما على الآخر، وأنّ المجتمع لا يدمج الفرد، ويمحو إرادته، ويطحن اعتباره، ولكنه يجعل إرادته للخير الجماعي بقوة التدّين والضمير، ولذلك كانت حقوق الأفراد مقيّدة دائماً بحق الجماعة، من أجل الأمّة ورعاية مصالحها.

تعليق عبر الفيس بوك