حاجة أمتنا إلى الوعي بذاتها وتقييم تجربتها الفكرية

عبد الله بن علي العليان

بعد قيام الدولة الدولة الوطنية، وانحسار الدولة التقليدية في فترة الاستعمار، وما تلاها من كوارث وأزمات وإخفاقات على مختلف الأصعدة، ولدت على السطح الكثير من النظريات والتحليلات والأفكار لتفسير ظاهرة الأزمة وفهمها. بعض هذه النظريات رجع السبب في ذلك إلى النظام الأبوي (البنية البطركية) للمجتمع العربي، والبعض الآخر أرجع تخلفنا وهزائمنا المتواصلة إلى ما يعتبره بـ ( جذور الاستبداد) الذي تحفل به الدولة المشرقية تاريخياً. وجاءت تحليلات الماركسيين أيضاً، لفهم تخلفنا وتراجعنا ـ وهم يعتبرون أنفسهم آباء التحليل السياسي الاقتصادي! وقالوا إنّ أصل بلائنا يكمن في الاقتصاد الريعي، أو النمط الآسيوي للإنتاج وعدم وجود نظام الطبقات في المجتمع. ويقترب بعض المنظرين من هذه الأفكار بقدر ما يبتعد، لكنه يرجع هذا التخلف وأسبابه، إلى طبيعة الفكر السياسي العربي التقليدي، وغياب النظرية السياسية العلمية، وسيطرة الطوباوية وتسلطها على الوعي العربي الإسلامي. وهناك الكثير من أشكال هذه الأفكار التي تحلق بنا في فضاء وهمي لا يمت إلى الواقع بصلة، كالتي سردناها آنفاً.

لكنها ـ هذه التحليلات والنظريات ـ تلتقي في منظومة واحدة وهي التنظير لأنفسنا من واقع غيرنا ! وافتراض ـ كما يقول د. خلدون النقيب أنّ المجتمع العربي يجب أن يستجيب لقوانين التطور الأوروبي. وهذه الإشكاليّة هي التي أثمرت فكراً مضطرباً غير متماسك من الناحية الواقعية والاستدلالية، في دراسة واقعنا العربي، والمقاربة في حل إشكاليته المزمنة، وأصبح من المستغرب ـ كما يقول د/ برهان غليون ـ " استخدام المفاهيم والمقولات الحديثة مثل الأمّة والطبقة والحزب والفرد والقانون، في الحديث عن السياسة في المجتمع العربي والإسلامي المعاصر. ومن آثار هذه النزعة وتفرعاتها أيضاً العودة بمناهج في المجتمعات الإسلامية والعربية إلى المذاهب الاستشراقية التقليدية المتمحورة حول الفيلولوجية، واستنتاج سلوك المجتمعات وممارستها التاريخية ونشاطها، وصراعاتها وتناقضاتها، من المصطلحات والمفردات وما تخفيه من معاني متنوعة، متناسقة أو متناقضة، وجعل الكشف عن محتواها المعجمي الكلاسيكي، المدخل الرئيسي إلى فهم سلوك العرب السياسي الحاضر وإدراك مغزاه، وكأنه يشير إلى آراء د. محمد جابر الأنصاري التي طرحها عن ظاهرة " اللادولة" في القسم الأول من كتابه (التأزم السياسي عند العرب) "مدلول أزمة المصطلح" فيقول: وهكذا حاول أن يفسر البعض مشاكل الدولة العربية الحديثة وضعف بنيتها المؤسسية من خلال إرجاع مفردة الدولة إلى مصدرها المعجمي وهو دال، أي تغيّر. ويستنتج من ذلك سلوكاً عاماً ولا تاريخياً ثابتاً للعرب في علاقتهم بالدولة هو النظر إليها كتغيّر وليس كثبات، ويكتشف بالتالي سبب غياب مفهوم المؤسسة ووجودها معاً في ممارسة السلطة.

وهذا يعني أنّ تاريخ الدولة العربية لا ينبع من مراحل تكوينها الفعلي والملابسات والسياقات الجيوسياسية والاجتماعية، الداخلية والخارجية، التي نشأت فيها، ولكن من المفردة التي ارتبطت بها. وهذا يعادل قولنا مثلاً إنّ عقل العربي غير قادر على الحفظ والتركيز، لأنّ مصطلح الإنسان يعني عند العرب كما يقال عادة النسيان، أو أنه جاء من النسيان.

والحقيقة أنني استغرب من هذه الاستنتاجات التي طرحها البعض لواقعنا العربي في العصر الحديث، وتجاهل أخطاء الزعامات والنخب السياسية العربية، التي امتلكت الفعل والقرار واتخاذه، في الوقت الذي تمّ فيه تغييب الشعوب من المشاركة في هذا القرار السياسي أو ذاك سواء عبر المؤسسات البرلمانية التي همّشت من الفاعلية الديمقراطية، أو غيرها من مؤسسات المجتمع المدني التي كان من الممكن أن تلعب الدور الإيجابي، لو كان لها صوت مسموع، لا مقموع في المجتمع، هذا بافتراض وجود مثل هذه المؤسسات، أمّا في حالة غيابها، فسيكون تحميل الجذور المجتمعيّة والخلل السوسيولوجي (القاع)، بالمجتمع العربي خطأً بيّناً، يقع فيه الباحث من خلال هذا الاستنتاج، فالقرار السياسي العربي بيد هذه النخبة أو الزعامة، واختيار القرار الصائب أو "الخائب" إرادة وفعل، تستطيع وتملك البدائل للتعامل مع القضايا والإشكالات، ومقوّمات النهوض، وأسباب الإخفاق، وكوامن الضعف وعوامل تحقيق التقدم والمكاسب الحضارية، ومن غير الممكن أن تختار الزعامة السياسيّة، الاستبداد، والقهر، والتسلّط ثمّ تفتش عن الأخطاء، من خلال تحميل الجذور التاريخيّة المترسّبة في هذا المجتمع أسباب وإخفاقات هذه الزعامات؟!

لقد استوردت الدولة التقليدية، ثمّ الدولة الوطنيّة بعد الاستقلال، النظم، و الأفكار، والبرامج الغربية، وبعض هذه الدول طبقت العلمانية في جانبها القهري الاستبدادي، ولذلك " فإنّ الطابع القمعي للدولة العربية القائمة ليس التعبير الصريح أو المبطن، عن بقايا تراث الاستبداد الشرقي الذي تجسّده الدولة السلطانيّة، وأقل من ذلك الثمرة المباشرة لإرادة الأشخاص أو العقائد والبرامج السياسية والاجتماعية المرتبطة بمجموعات الحكم المتبدلة، إنّه بالعكس من ذلك، التعبير عن التحول البطيء في طبيعة الدولة الحديثة ذاتها أو دولة التقدم والتحديث.

ومن هذه المنطلقات أثمرت هذه السياسة فكراً مغايراً لثقافة الأمة وموروثها الحضاري، ونشأ عن ذلك اضطراب سوسيولوجي، بعد إقصاء المرجعية الذاتية والهويّة الوطنيّة، وتهميش دورها في صياغة نموذجها الفكري والسياسي، النابع من ذاكرتها الحضارية في الميادين المختلفة، ونتج عن ذلك فشل ذريع في البرامج والخطط في مستويات عدة . وما نشاهده من مظاهر التقدم والتنمية التي تحققت نسبياً في بعض هذه الأقطار العربية " ما هي إلا أمور سطحية لا تمس الجوهر أو الذات الفاعلة، وأقصد بذلك الإنسان العربي على اختلاف مستوياته الثقافية وطبقاته الاجتماعية، وذلك لأنّ مثل هذه التنمية وذاك التقدم، هي أمور تابعة ومرتبطة بالمركز الحضاري الغربي، سواء كنا نتكلم بنيوياً أو ثقافياً ـ أيديولوجيا. فمثقفونا يمارسون أحلام يقظة في أسر الكلمات والمفاهيم والأيديولوجيات المجردة، مما يسقطهم في مزالق الاغتراب وهوة العزلة الاجتماعية واللافاعلية كنتيجة لكل ذلك. وطبقاتنا الاجتماعية ليس لديها وعي بكينونتها الطبقية في المقام الأول، فتمارس وظيفتها الاجتماعية عشوائياً وفق نمط فردي غارق في الغيبوبة الاجتماعية، تتقاذفه شتى الاتجاهات ومختلف أنواع الوعي الزائف، وكلها لا تعبر عن وعي يتمثل بحقيقتي الزمان والمكان، وبالتالي، تتحول إلى كم بشري هامشي لا أثر اجتماعياً فعلياً له .

الأمة العربية بحاجة إلى المراجعة، وإلى الوحدة، وإلى الرؤى المنطقيّة في القضايا الملتبسة والمعقدة للخروج من هذه الأزمات وإزاحتها من الصدارة، وإلا سنبقى أسرى الأزمات والتوترات والكوارث التي يتم استعادتها بين الفينة والأخرى.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك