الوعي.. نورٌ لا يُمنح للجميع

 

 

د.صالح بن ناصر القاسمي

قد ينجو الإنسان من كل شيء، إلا من غفلته عن ذاته، تلك المسافة الخفية بين أن يحيا بوَعْي أو يستهلكه اليوم، بين أن يقود خياراته أو تُسيّره الظروف، تصنع الفارق العميق بين الحياة كنبض… والحياة كمعنى.

ليس الحديث عن ذكاء العقل، بل عن بصيرة القلب، ليس عن كثرة ما نعرف، بل عن كيف نفهم، ولماذا نختار، وما الذي يدفعنا في العمق إلى أن نكون ما نحن عليه.

لذلك، حين يُطرح سؤال: من أين يبدأ التغيير الحقيقي؟ فالجواب غالبًا ليس في الخارج، بل في تلك اللحظة الصامتة التي يدرك فيها الإنسان نفسه… ويسميها البعض: الوعي.

قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾.

ومن هنا تتضح أهمية الوعي؛ ذلك المصطلح الذي يسعى الجميع إلى امتلاكه، لا لأنه مطلب فكري فحسب، بل لأنه أثمن هدف يمكن للإنسان أن يضعه نصب عينيه، وأسمى وجهة يمكن أن يشدّ الرحال إليها. فهو الشعور الذي يرتقي بالإنسان من حالة الوجود العابر إلى الحضور الحقيقي في كل تفصيل من تفاصيل الحياة.

بواسطته، يتحرر المرء من سطوة الخوف؛ لا الخوف من المجهول فحسب، بل من تسلط الظروف، ومن سيطرة الآخرين الذين يفرضون سلطتهم لا بقوة المنطق، بل بهشاشة التكرار وضجيج القطيع. إنه الدرع الذي يحصّن المرء من الانقياد، والسلم الذي يرفعه فوق محاولات التلاعب والتأثير والإلغاء.

بل أسمى من كل ذلك… أن يشعر الإنسان الذي تذوّق طعم الوعي، بأنه حرّ، لا تحبسه صورة ولا تسجنه فكرة، طليق الروح لا يُقيّده ماضٍ، ولا يُرهقه توقع، متسامٍ فوق الأنانية والرغبة في الامتلاك أو التسلط. يشعر أنه لا يعيش فقط لذاته، بل يُسهم في بناء مجتمع إنساني كبير، يضع فيه لبنة من ضوء، أو كلمة من خير، أو موقفًا منصفًا، دون أن ينتظر المقابل أو التصفيق. إنه لا يكون مجرد فردٍ ضمن الحشود، بل فاعل في المشهد، ممتلئ بحضوره، حاضر بقيمه، مشارك في صناعة الوعي الجمعي.

فما هو هذا الوعي الذي يسعى الإنسان إلى إدراكه بالمعنى الحقيقي؟

بكل بساطة وعمق في آن، هو تلك الحالة الشعورية المتقدمة التي تُمكّن الإنسان من أن ينظر إلى نفسه بعين الفهم لا بعين الحكم، أن يدرك بيئته الداخلية بمكوناتها النفسية والعقلية، فيفهم دوافعه، ويُقيّم مشاعره، ويُحسن استخدام أدواته الفكرية والسلوكية.
هي طاقة داخلية ناعمة لكنها حاسمة، تعمل كالبوصلة التي تُرشده عند مفترق الطرق، وتُعينه على اتخاذ قرارات صحيحة لا انفعالية، مبنية على فهم متكامل للذات قبل العالم، وللمقاصد قبل الظواهر، وللأثر قبل الخطوة.

ولا يقتصر هذا الإدراك العميق على فهم الإنسان لذاته وحدها، بل يتجاوز ذلك ليشمل محيطه الخارجي، بما فيه من أشخاص وظروف ومواقف وسياقات. فهو لا ينحصر في البيئة الداخلية من مشاعر وأفكار وتجارب شخصية، بل يمتد ليغمر الواقع الخارجي الذي يتفاعل معه الإنسان يوميًّا.

هو أشبه بعدسة داخلية ترى العالم من منظور أكثر اتساعًا، فتجعله قادرًا على إدراك ما وراء الظاهر، وفهم ما وراء السلوك، واستيعاب طبيعة الأشياء من حوله لا كما تبدو، بل كما هي. ومن خلال هذا الاتساع في الرؤية، يصبح الشخص قادرًا على التفاعل الواعي مع معطيات الواقع، بما يتوافق مع قناعاته الخاصة، ورؤيته المتزنة، دون أن ينساق وراء المؤثرات أو الضغوط اللحظية.

وهو باختصار، قدرة على استخدام الأدوات المعرفية المتاحة – من تفكير وتحليل وتأمل وتقييم – في التعامل مع محيطه، لا بطريقة تلقائية أو سطحية، بل من منطلق فهم واعٍ، وانتقاء دقيق لما هو أنسب، وأجدى، وأقرب إلى مبدأه، وإلى ما يؤمن به.

كذلك، الوعي مرحلة متقدمة من المعرفة والثقافة، بل هو خلاصة التجربة الإنسانية حين تنضج وتتجاوز حدود التلقين والحفظ. وإن كان يُظن في ظاهر الأمر أن التعليم هو بوابة الوعي الأولى، فإن الواقع يكشف غير ذلك، إذ لا علاقة حتمية بين الشهادات الأكاديمية وبين عمق الإدراك.

كم من أناس لم يُكتب لهم أن يلتحقوا بمقاعد الدراسة، ومع ذلك يملكون من الفطنة، والهدوء، والاتزان، وحسن التقدير، ما يجعلهم مرآة للحكمة ومصدرًا للطمأنينة لمن حولهم.

إنهم يُحسنون فن التعامل مع أنفسهم قبل أن يُحسنوا التعامل مع العالم، يقرؤون مشاعرهم، ويتأملون مواقفهم، ويُصلحون الداخل ليكون انعكاسًا متزنًا في الخارج. ثم تراهم، دون تعالٍ أو ضجيج، يمارسون أثرهم في بيئتهم ومجتمعهم، فيُحتكم إليهم في النزاعات، وتُطلب مشورتهم عند التردد، ويُستأنس برأيهم حين يضطرب الرأي العام. كل ذلك ليس لأنهم قرؤوا كثيرًا، بل لأنهم فهموا كثيرًا، وأدركوا جوهر الحياة من خلال معايشة التفاصيل، واستخلاص المعاني من التجارب، ومراكمة الحكمة من مكاسب الحياة وخساراتها.

إن ما لديهم ليس علمًا في الكتب، بل بصيرة في القلوب، وإدراكًا يتشكل من صدق النية، وعمق الملاحظة، وطول المران على الإصغاء للناس، ولأنفسهم أيضًا.

وقد لا يكون هذا الإدراك العالي وليد التجربة أو التعلم فقط، بل في بعض الأحيان، يكون نفحة من الله، وإلهامًا خفيًّا يخصّ به بعض عباده دون غيرهم.
وهبٌ لا يُطلب، وإنّما يُمنح، فتجد أشخاصًا يمتلكون قدرة فطرية على قراءة المواقف، وتقدير الأبعاد، وإصدار الأحكام برؤية متزنة، كأنهم وُهبوا عينًا ثالثة تبصر ما لا تراه الأبصار، وقلوبًا تقرأ ما بين السطور. وغالبًا ما يكون لمثل هؤلاء أثر بالغ في المجتمع، إذ يأتون في اللحظة المناسبة، بالكلمة المناسبة، فيُصلحون ما فسد، ويقربون ما تباعد، ويفتحون مغاليق المسائل لا بجلبة ولا سطوة، بل برفقٍ يشبه الإلهام.

ومن هنا، ينبغي أن ندرك أن هذا النوع من الوعي لا ينعكس فقط على صاحبه، بل يُشكّل قوة ناعمة تنهض بالمجتمعات، وتأخذ بأيديها نحو التقدم والرقي؛ ذلك لأنه يرتكز على حسن التدبير، ورقي التعامل، وفهم عميق لاحتياجات النفس والآخر، ويمنح صاحبه القدرة على التوازن بين ما يراه وما يشعر به، بين ما يريده وما ينبغي أن يكون.
فتجده إنسانًا خاليًا من الأنانية، مشبعًا بروح المحبة، يسعى إلى الألفة لا إلى التفرقة، ويبني بالتسامح أكثر مما تُبنى به الخطب الحماسية والشعارات الزائفة.

كم هو جميل، بل كم هو فاعل هذا الحضور الداخلي، حين يُصبح سبيلاً لإزالة الكدر من النفس، وتصفية الظنون، وتبديد سحب سوء الفهم.. هو طُهرٌ من الداخل، يُثمر سلوكًا نبيلاً في الخارج. فمن يحمله، لا يرضى أن يكون طرفًا في سوء، أو سببًا في ألم، بل يبحث عن المساحات النقية، ويملؤها بالأخلاق، كما يُملأ الإناء النظيف بماء نقيّ.

ومن دلائل هذا النضج أن من يمتلكه لا يرضى لنفسه إلا أن يسعى إلى الأخلاق الحميدة الراقية، ويجتهد ليبتعد عن الرذائل وسوء التصرف. وهنا ينسجم هذا السلوك الواعي مع مقام عظيم في الشريعة، وهو مقام الإحسان؛ ذلك المقام الذي يتجاوز الظاهر إلى الباطن، ويتعدى السلوك إلى النية، ويبلغ من السمو ما عبّر عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).

فمن تنبض روحه بهذا الحضور، يعيش كل لحظة وكأن الله مطّلع على سره وجهره، فيُحسن حين يفعل، ويخلص حين يتعامل، ويهذب قوله وفعله، لا خوفًا من الناس، بل حياءً من الله.

إن إدراك الإنسان لما حوله لا يمنحه التميّز فحسب، بل يوقظه من الغفلة، ويدفعه نحو حياة أكثر صدقًا وامتلاء؛ فالذي يعيش مدفوعًا بالوعي، لا يُقاد، بل يختار؛ ولا يُكرر، بل يُعيد صياغة ذاته كلما استلزم الأمر، هو في جوهره يقظةٌ ممتدة، تسبق الخطى، وتُضيء الدرب، وتُعلّم صاحبها أن أصدق ما في الحياة… أن تفهمها أولًا، ثم تعبرها كما يليق بك.
وحين نُحسن فهم ذواتنا والكون من حولنا، تصبح الحياة نفسها شكلاً راقيًا من العبادة… وتلك هي غاية الإدراك، ومقصد الفطرة، ومنتهى الإنسان.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة