قراءة سياسيَّة في عهد السلطان قابوس

سُلطان الخَروْصي

خمسةٌ وأربعون ربيعًا، وعُمان ترفلُ بأثواب الإنسانية المجيدة؛ تزيِّن نحرها السَّاحر تنمية الإنسان المتلهِّف بعَبَق الحضارة الخالد والمزدان بتآخٍ شعبيٍّ لفيف تنسدلُ عليه عدالة حاكم عظيم، هي ملحمة بيِّنة في جبين الزمان يشدو بربابتها التاريخُ ليسمع أثيرها الفيروزي جموع بني الإنسان؛ فيرشفون من معِيْن جنائنها غدق المدنية والتحضر الزلال، أضحتْ "عُمان" مسكًا تتطيبه ألسنة الطفولة الواعدة، وتصدح به فخراً حناجر الشبيبة الظافرة، وتغني بظاهرها وباطنها شفاه آبائنا وأجدادنا الذين عمَّروا أرض "مجان" الطاهرة خير عمارة.

عُمان في عهد النهضة الزاخرة تبدو كعروسٍ دانتْ لها حسناوات الجواري، وخارت أمامها زمجرة الطغاة وأصحاب القواني، عضت بالنواجذ على مفاصل المواطنة والانتماء الصادق بعيدا عن التزلُّف والدجل والسذاجة التي يموج فيها الوطن العربي بين غمضة عين وانتباهتها؛ بحجة تحقيق المصالح الوطنية العليا؛ فتمضغها الألسنة لتكون بَعْد حين مناص قرْبَانا لمكاسب حزبية أو قومية أو قبلية أو مذهبية سمجة؛ حتى إذا ما انقشعتْ غيوم الكذب وشراء الذمم تراشق أصدقاء الأمس بنباتات سامة قاتلة تربتها الخبيثة ترتوي بمعين التحزب والانشقاق ليكونوا أعداء اليوم ولله في خلقه شؤون.

... إنَّ المتتبعَ لسيرورة الزمن العُماني في عهد السلطان قابوس يلحظ سيراً حثيثاً نحو رسم خط سير دولة المؤسسات العصرية القائمة على سواعد المواطنين والتي هي خارطة الازدهار الحضاري في مختلف مؤسسات القانون: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعمرانية؛ إذ استطاع السلطان قابوس إخراج البلاد من عمق الزجاجة والعزلة إلى محافل الوجود الدولي، فأصبحتْ عُمان رقماً صعباً ضمن المنظومة العالمية، قوامها التبصر والحكمة والثوابت الإنسانية النبيلة نحو عيش رغيد للجميع، عاشت عُمان قبل نهضة السبعين كما تذكر كتب التاريخ حياة الغاب من خلال عزلتها السياسية، ديدنها الأول والأخير الذود عن (فتات) دولة مقسمة آنذاك بين الداخل والخارج؛ فقد عصف الاحتقان القبلي والأيديولوجي بالثقل السياسي العُماني رِدحاً من الزمن ليهوي بالبلاد والعباد نحو مستنقعات سحيقة ومفترقات طرق وجلة تتحين بين فينة وأخرى استعار الحروب الأهلية؛ فخارتْ مكانتها الإقليمية والدولية واستضعفتْ ليسيل لُعاب أهل النفوذ من سماسرة وشراذمة الحروب للنيل منها؛ فدمرت البلاد ونكل بالعباد فلم يبقَ فيها شجر ولا حجر ولا مدر إلا ويلهج بصوت الرصاص والاغتراب في أرض الوطن، وأضحت دعوة النبي الكريم "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك"، وكأنها ضَرْب من ضروب الماضي المندثر، وقد جرَّ ذلك الضمور السياسي زهداً اقتصاديًّا أمام ما تملكه البلاد من خير وفير؛ فغابت العدالة الاجتماعية، وشهدت البلاد عقما ثقافيا لا مثيل له عبر صفحاتها الثرية؛ فعاش الناس فقراً مدقعاً وإحباطاً مفزعاً ألقى بضلاله على الداخل والخارج؛ وأصبحت طيور العُمانيين المهاجرة سعياً للعيش الرغيد تبصر على امتداد البحار والمحيطات تتقاذفهم أمواج القدر -وهم نواخذته وقبطانه بلا منازع- نحو العمل في الكويت، والسعودية، والبحرين، وجنوب شرقي أفريقيا وغيرها من مجاهيل العالم الشرقي والغربي، في وقت كان جيرانهم يتقلبون في نعيم البترول الآسر.

وفي زاوية أخرى، كانت البلاد تألم من جراحات الخنجر المسموم الذي غرسه في خاصرتها بعض رجالات الشيوعية في جنوب عُمان والتي شكلت منعطفاً ثالثاً يستنزف جرح الوطن المتهالك بين الإمامة والسلطان والأجندة الخارجية، فمنذ منتصف الستينيات وحتى مطلع السبعينيات وبالتحديد في عام 1975م كانت حركة التمرد تتلقى دعماً سخياً من الجمهورية الليبية بقيادة الراحل العقيد معمر القذافي وبعض الاشتراكين في العراق وسورية ومن قوى دولية ترعرع فيها الفكر الشيوعي كالقطبين الرئيسيين الصين والاتحاد السوفيتي آنذاك، وفي خضم هذه الزوبعة التي تعيشها البلاد والاحتقان السياسي وغياب العدالة الاجتماعي الذي كان يلتهم الأخضر واليابس، انبرى السلطان قابوس على منصة القيادة وعلى كاهله إرث مثقل بالجراح، ووطن متهالك ومترهل بالدماء الفاسدة من الداخل والخارج، وسهام متواترة بين الحين والآخر من الشيوعية في الجنوب، وبذور الإمامة النائمة في الجبل الأخضر وضواحيه، وتراشق دولي كبير بين الرأسمالية والشيوعية، علاوة على الخطر الإيراني الذي كان ولا يزال تتوجس منه ريبة ورهبة دول مجلس التعاون الخليجي، فكان خطابه السامي يشي بما تشعر به نفسه ونفس العُمانيين من الإحباط والبؤس تجاه الموقف العربي وهو الذي كان يطمح منهم احتواء تمرد الجنوب؛ إذ إنَّ عددا من الدول العربية كانت تقدم دعما سخياً للمتمردين، فكان خطابه السامي: "إنني كنت أنتظر بمجرد أن أصبحت عُمان عضوا في الجامعة العربية أن يبادر الأخوة إلى وقف هذا النزيف"!

حينما لم تمد له يد العون إلا من إيران إبان حكم الشاه، حينها قطع القائد العظيم عهداً خالداً على نفسه بتحرير كل شبر من هذا الوطن باسم عُمان دون غيرها من المسميات والتحزبات السرطانية، كما تعهد بأنْ يرفل كل عُماني بالعيش الهانئ الرغيد، فاستطاع أن يوحد الصف ويلم الشمل في (11 ديسمبر 1975م) بعد دحر جماعات التمرد، معلناً العفو والصفح عمن أجرم في حق الوطن والمواطن متوشحاً في ذلك فعل النبي الكريم حينما فتح مكة؛ فقال لأهله: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فلم يكن جسوراً على الضعفاء، ولا متعجرفاً على المهزوم، ولا سيفاً مسلطا على من أعمته قبليته أو تزمت بالدين والمذهب والفكر السقيم، فلم يكن مثل كثير من قادة العالم الذين يقتاتون على دماء شعوبهم، فينكلون من خالفهم، ويستحلون أموالهم وأعراضهم؛ لذا خلد التاريخ تلك الملحمة التي دفعت جموع العُمانيين للوقوف خلفه وشعارهم "ماضون خلفك لا شقاق ولا فتن"، كما أنه لم يحجر نفسه ووطنه عمن كانوا أعداءه وأعداء الوطن بالأمس، فعانقت يداه الصين والسوفييت ومصر والعراق وسورية وكثير ممن تلطخت أياديهم ذات يوم بدماء الشرفاء من أهل "مزون" الخالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أضف إلى ما سبق أنَّه لا يخفى على عين بصير الموقف العُماني الذي انتهجه السلطان قابوس في سياسته الخارجية مع كثير من مجريات الأحداث الملتهبة؛ ففي المشهد الإيراني نجد أنَّ الفكرَ المستنيرَ لقائد النهضة المباركة يستوحي مبدأ الحوار والجوار بمسؤولية حضارية وتاريخية عميقة، قوامها المصالح المتبادلة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ فكانت السلطنة تقف موقف الحياد في الكثير من الأزمات التي تكون فيها إيران طرفا مباشرا مع دول الجوار أو مع تطورات المشهد العربي، فبعد المأساة التي عصفت بالعلاقات العربية-الإيرانية إثر حرب الاستنزاف بين العراق وإيران على مدى ثمان سنوات عجاف (1980-1988م) نجد أنَّ الموقفَ العُمانيَّ كان يتوخَّى الحذرَ لينزوي بعيداً عن التصعيد أو الاحتكام للرصاص والمدافع بل كان يدعوا إلى تغليب الحكمة والعقل والاحتكام للروح الإنسانية النبيلة. وعلاوة على ذلك، كانت -ولا تزال- القطر الوحيد في المنظومة الخليجية التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع إيران باسم الإنسانية وحسن الجوار، متناسية في ذلك شبح المذهبية المقيتة التي تتعاظم خلاياها المخيفة في نفوس كثير من الأنظمة الخليجية والعربية، فنأت بنفسها عن أن تكون مياهاً راكدة تقطع حلقة الوصل بين الخليج العربي والبوابة الشمالية له بفضل القيادة الحكيمة والحنكة السياسية النبيلة؛ فكانت محل ثقة الإيرانيين في التعامل مع كثير من المواقف الخليجية والعربية والعالمية، ولا أدل على ذلك أن عُمان شكلت على مدى السنوات العشر الأخيرة جسر التلاحم والتواصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في وقت كان الكل يرى استحالة أن تكون هناك أي بوادر للقاء من هذا النوع لتتوج تلك اللقاءات بتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في 2015م. وعلى الرغم مما تتمتع به السلطنة من تنوع مذهبي، إلا أنها استطاعت أن تشكل لُحمة من الانسجام في دول المنطقة لتكون باكورة فريدة من نوعها في وقت تشهد فيه المنطقة غليان مذهبي مخيف.

وفي الداخل العُماني، نجد أنَّ التعاملَ مع كثير من الأفكار والمواقف والأزمات اتَّسمت بالحكمة والمسؤولية الوطنية الرائدة؛ فكثير من الأحداث التي توالت على البلاد طوال أربعة عقود مثل ظهور بعض التنظيمات السرية التي حاولت إحداث انقلابات سياسية مدفوعة بأيديولوجيات معينة -كما هي الحال في كثير من بلدان العالم العربي- إلا أنَّ التعاملَ المسؤول من قبل القيادة الحكيمة كان فريدا من نوعه ومتميزا؛ اتسم بالتعامل مع الموقف من خلال تبيان الحقيقة وتبصير من غرر بهم بضرورة التوبة والعض بالنواجذ على مقدرات الوطن والإيمان بقدسيته، كما أن الكثير من الاعتصامات والإضرابات التي توالت على الساحة العُمانية والتي كانت تنادي جهاراً نهاراً بالإصلاحات التعليمية، والاقتصادية، ومحاربة الفساد، والترهل المؤسساتي لاقت آذاناً صاغية من قبل القيادة الحكيمة؛ لأنها على قناعة تامة بأن أربعة عقود من البناء والتطوير الإنساني كفيلة بخلق جيل واع يقرأ الأحداث بمسؤولية وتبصر في سبيل رفع راية عُمان خفاقة بين الأمم، فحق للسلطان قابوس أن يفخر بوطنه وشعبه، وحق للعُمانيين أن يرشفوا من كأس الخلود الحضاري لباني المسيرة الظافرة، وحق لنا أن نجلجل أقدامنا وأيدينا تصفيقاً وتعظيما للقائد الوالد، وحق للجميع أن يقلدوا التاريخ وساماً خالداً ويطربوا العالم بسمفونيتهم الهادئة الصامتة ويغنوا أوركسترا التضحية والفداء الحقيقي بعيداً عن الهلامية والنفاق.

وكل عام وعُمان تزهو بالخير والسؤدد....!

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك