وطن الحبِّ.. وطريق الانتماء

 

 

زينب الغريبيَّة

 

يُولد الإنسان ليجد نفسه منتميا إلى أكثر من دائرة -كالأسرة، والقبيلة، والدين، والمذهب، واللغة، واللهجة، والمنطقة، والوطن- وفي الواقع، فهو يُولد بفطرة محايدة سليمة مُستعدِّة للتوجيه -سواء للانتماء الصادق أو لعدم الانتماء- وتفاعُل هذا الطفل مع المحيط هو الذي يُكسبه تدريجيًّا الانتماءَ نحو الجماعة -سواء كانت أسرة أو مجتمعا أو وطنا- فإذا كان التوجيه والخبرات إيجابية كان الانتماء كذلك، وإن كانت إقصائية -نتيجة عوامل معينة اجتماعية أوثقافية- ستبدأ مشاعر الكراهية في التكوُّن نحو المجتمع، وهذا ما ينتج عنه لاحقا الشعور بعدم الانتماء.

والإشكالية لا تكمُن في تعدُّد انتماءات الشخص، إنما في عدم انضواء هذه الانتماءات تحت مظلة الانتماء الوطني الواحد؛ فقد يغلِّب الفرد أحد هذه الانتماءات على حساب الانتماء الوطني، وعندها لا يصبح الانتماء الوطني هو الانتماء الأكبر لدى الفرد؛ فيضعُف بذلك انتماء الفرد للوطن، ويؤدي ذلك إلى تكوين مواقف سلبية توجِّه سلوكيات الفرد تجاه الوطن بمختلف مكوناته؛ وبذلك يصبح الانتماء عملية حساسة يسعى البعض إلى توظيفها سياسيًّا؛ مما يُوجد بلبلة وانقسامات داخل المجتمع الواحد قد تؤدي إلى صراع من الممكن أن يصل إلى حدِّاستخدام العنف؛ وبذلك تتحول هذه الانتماءات -التي لا تحمل في بذورها أيَّ شر- إلى دافع يشكِّل التفرقة وما يترتب عليها.

وفي الواقع، إنَّالحقوقَ والواجبات والهوية الوطنية، والمشاركة، والانتماء، تعدُّمنظومة مترابطة لتشكيل مواطنة الفرد تتأثر ببعضها البعض، وهي بذلك أساسٌ للتفاعل بين جميع أفراد الوطن الواحد وفق أطر قانونية وثقافية وتاريخية تحفظ للجميع حقهم في تلبية متطلبات الحاضر، والاحتفاظ بجذور الماضي، وتتيح لهم فرص الاندماج في إطار انتماء وطني واحد يتساوى فيه الجميع في فرص الحياة والمشاركة تبعاً لاستعداداتهم وقدراتهم، ودوافعهم الوطنية. فالتعبير عن الانتماء عملية أوسع يشترك فيها جميع المواطنين بمختلف قدراتهم المالية والفكرية والبدنية، فكلُّ مُواطن بإمكانه أنْ يقول "أنا منتمٍ لوطني لأني أراعي وطني في كل ما أقوم به من تصرفات".

وفي ميلاد الوطن، علينا أنْ نعي أنَّ عُمان في حاجة إلى عودة مسؤولة من المواطن لكثير من جوانب الحياة في البلد؛ فالمواطنة المسؤولة اليوم تعتبر أهم عوامل تقدم المجتمعات، وضعف هذه المسؤولية يخلق العديد من الإشكاليات التي تعيق آليات التقدم؛ فبقدر ما يزداد عدد المواطنين المسؤولين في أي مجتمع تزداد قدرته على التقدم، وبقدر ما يقل عدد هؤلاء تبرز الإشكاليات؛ ولذلك نقول بأنْ هديتنا للوطن في يوم ميلاده هي عودة المواطن العماني إلى دائرة المسؤولية الوطنية الواعية التي يكون هدفها البناء، والحفاظ على تماسك هذا المجتمع، واستقرار هذا البلد، عودة من الجميع ابتداء من المسؤول الكبير ووصولا للموظف البسيط.

ولنا أن نتخيَّل كيف يكون هناك وطن لا يؤدي فيه المواطنون واجبَ المشاركة، ولا يرفعون حجرًا أو ورقة من أزقته أو شوارعه، أو لا يحرصون على مقدِّراته كما يحرصون على ممتلكاته الشخصية، أو لا يرون فيه إلا المكاسب المادية التي يمكن أن يحصلوا عليها منه؛ فإذا حصلوا عليها أداروا له ظهورهم، وكيف لنا أن نُوجد مجتمعا يتعايش أفراده إذا كانت المعتقدات والعادات والأصول تستخدم كأدوات تفتيت بدلا من أن تكون ورودَياسمين بيضاء جميلة تضفي نضارة وإشراقا لحديقتنا الرائعةوطننا عمان.

32 يوليو.. انقضاء عام من عمر الوطن؛ لنستقبل عامًا آخر جديدًا تتزايد فيها تطلعاتنا الوطنية لتحقيق مزيد من التقدُّم في تعزيز المواطنة وبناء دولة المؤسسات التي تساعد في تعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والاقتصادي للبلد ليس على المستوى القصير فحسب، بل وعلى المستوى البعيد أيضا؛ وبالتالي فمن الأجدر بناالتمعُّن في مجريات الأحداث العام الماضي والأعوام التي سبقتها للخروج ببعض الدروس المهمة التي يُمكن استثمارها في توجيه مجريات الأمور في العام المقبل، الذي يتنفس أيامه الأولى،ووضع التحديات الإقليمية والعالمية المتوقعة في الحسبان.

فعلى المستوى الرسمي، لابد من تسليط الضوء على قضايا مهمة تهمُّ المواطنكتلك المتعلقة بالمناقصات الحكومية وكيفية التعامل معها، أو باستقدام العمالة وتوظيفها بصورة غير شرعية، أو بالسوق والغش التجاري والمغالاة في أسعار السلع والخدمات، وجوانب أخرى متعلقة بالمؤسسات الحكومية، وكيفية تطبيقها لقانون الخدمة المدنية، وكيفية توظيفها لموازنتها العامة، وللإسكان وكيفية تعامل مع استحقاقات الأراضي، وللتعليم وكيفية إدارته للاستثمار الحكومي في مجال التعليم،وللصحة وجودة خدماتها، وللتراث والثقافة وكيفية تعاطيها مع القوانين التي تصُوْن هذا المورد الحضاري، وللسياحة وكيفية تعاملها مع القوانين المحفزة والحامية للاستثمارات، وللبيئة والشؤون المناخية وكيفية تطبيقها للقوانين البيئية، وهناك جهات ترتبط بقوانين متعلقة بالأطفال، والمرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة التي بحاجة إلى تمكين وحماية، ناهيك عن القوانين المتعلقة بقطاع البنوك، والإنشاءات، والسيارات...وغيرها من المؤسسات التي يحتاجها المواطن.

فأحد أهم المواضيع في التطوير هي مراجعة عمل وأداء والإنجاز المحقَّق في المؤسسات الحكومية؛ فعدم الرقابة والمراجعة لعملها له دور كبير في خلق إشكاليات تنموية أو في صعوبة إيجاد حلول لها إذا ما تراكمت وثقلت؛ فنحن بحاجة إلى التأكيد على جودة وفاعلية أداء هذه المؤسسات ومدى قدرتها على أن تجعل ممارساتها مشبعة بالمواطنة، وتحقيق هذا لن يتأتى من خلال تطبيق القوانين المنظمة لعمل هذه المؤسساتفحسب، بل يحتاج إلى بناء الانتماء الوطني الذي متى ما كان قويًّا لدى جميع العاملين في هذه المؤسسات لحصل المراجعون منالمواطنين على حقوقهم التي أقرَّتها لهم الدولة دون تأخير أو إهمال. أما إذا لم يشعر هؤلاء العاملون في هذا المؤسسات بقيمة المسؤولية الوطنية التي يقومون بها، فإنهم يُؤثرون على غيرهم من المواطنين، وعلى مُتخذي القرار في هذه المؤسسات أن يضعوا المواطنة أحد مبادئ العمل، وعليهم متابعة الظواهر التي تؤثر فيها في مؤسساتهم، ونحن -المواطنين- نتطلع إلى مؤسسة حكومية مشبعة بممارسات المواطنة المسؤولة.

كما لا يُمكن إغفال أهمية التربية والتعليم من أجل بناء مواطن مسؤول، وبناء وطن يُحترم فيه القانون، هنا يكون العمل على تكوين صورة عملية وواقعية للوطن عند الجيل الجديد، وطن تعمل فيه المدرسة على تعليم طلابه أهمية القواسم المشتركة بينهم أكثر من تعليمهم الفوارق والاختلافات؛فبناء مواطنين واعين هو المشروع الرئيسي للمدرسة؛ فدور المدرسة أن تقوم بعملية إعادة إنتاج للجيل الحالي بصفات إيجابية وتصرفات وطنية ومحاولة تهذيب الشوائب المؤذية فكريا وسلوكيا -إن وجدت-فمهمة المدرسة أن تعمل على مساعدة الجيل الحالي على تجنب الأخطاء والمواقف المتطرفة التي لم تؤد يوماً إلى صالح الوطن والمواطنين.

وحِيْن تتضامن الجهود الرسمية والشعبية -أفرادا ومؤسسات- في السعي من أجل الوصول إلى الصورة المقبولة من قبل الطرفين عن بعضهما، نكون وصلنا إلى صيغة الوطن الحب الذي لا تزعزعة قوى الأرض لو اجتمعت.

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك