خالد بن حمد الرواحي
في كل صباح، يُدوِّن الموظفون أسماءهم على بطاقات الحضور... لكن اسم "الولاء" لا يُسجَّل في أي مكان. المكاتب هي ذاتها، والوجوه تتكرر، لكن شيئًا ما يظل مختلفًا... إنه ذلك الإحساس الخفي بالانتماء. بعضهم يؤدي عمله، وبعضهم يرى في المؤسسة جزءًا من ذاته. فهل تعمل؟ أم تنتمي؟
يبدأ الصباح، وتمتلئ المكاتب بالحركة والضجيج... لكن خلف الزحام وساعات العمل، تختلف النوايا. هناك من يصل بشغف، كأن اليوم فرصة جديدة، وهناك من يعدّ الدقائق حتى نهاية الدوام. بين هذين الشعورين يعيش "الولاء الوظيفي"... ذلك الحافز الخفي الذي يجعل البعض يعمل من قلبه، وآخرين ينتظرون أقرب فرصة للرحيل.
المؤسسات الناجحة لا تبحث عن موظفين يملؤون الوقت، بل عن أولئك الذين يملؤون المكان بالحياة. الذين يرون في نجاح المؤسسة امتدادًا لنجاحهم، ويتركون أثرهم، حتى لو لم يُذكر اسمهم.
الولاء الوظيفي لا يُقاس بساعات العمل... بل يُولد حين يشعر الموظف أنه ينتمي، لا أنه مُلزم. ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة "غالوب" الدولية للدراسات والاستطلاعات المتخصصة في قياس مؤشرات الرأي العام وبيئة العمل (2023)، فإن الولاء يُعرَّف بأنه "ارتباط عاطفي وعقلي يدفع الموظف للعطاء بصدق، بدافع الانتماء لا الراتب"، وهذا الولاء لا يُؤمر به، بل يُزرع في بيئة تُقدّر الإنسان، وتُحفّز الشغف.
أما حين تتداخل اللوائح مع الروتين، ويشعر الموظف أن عمله لا يساوي أكثر من توقيع يومي، تبدأ المؤسسة -بصمت- في خسارة الانتماء، قال أحد الموظفين الحكوميين في مقابلة: "أشعر أحيانًا أنني مجرد رقم في تقرير الموارد البشرية... لا أحد يلاحظ حين أُنجز." صرخة صامتة تعبّر عن كثيرين تمرّ جهودهم دون تقدير. حين يُهمل هذا الشعور، تبدأ الثقة بالتآكل، ويبهت الانتماء.
ومع ذلك... فالأمل ليس بعيدًا. حين يجد الموظف بيئة تُصغي له، وتمنحه فرصة للنمو، يتحوّل التزامه إلى انتماء. ومع كل تقدير عادل، تُبنى لبنة جديدة في جدار الثقة.
من هنا، تبرز رؤية "عُمان 2040" بوصفها مشروعًا يرتكز على الإنسان لا على الأرقام. فهي تُراهن على تمكين العقول، وتحقيق التميز من خلال بيئة تعزّز الانتماء، وتُؤمن بأن الولاء ليس رفاهية... بل ركيزة للتنمية.
لكن هذا الولاء لا يُبنى بالعشوائية، بل بنهج إداري مرن، يُوازن بين التمكين والتحفيز، ويعيد صياغة العلاقة من الأوامر إلى الاحترام. القادة الحقيقيون لا يوزّعون المهام فقط، بل يزرعون المعنى. وكما قال سايمون سينك، أحد أبرز المتخصصين في القيادة والتحفيز المؤسسي: "عندما يشعر الموظفون بأنهم محل اهتمام حقيقي، فإنهم يقدمون أفضل ما لديهم."
وفي زمن التحول الرقمي، لم يعد الولاء يرتبط بالحوافز وحدها، بل ببيئة شفافة، عادلة، مدعومة بالأدوات الرقمية. تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2023) أشار إلى أن المؤسسات التي تستثمر في التكنولوجيا والتدريب تحقق معدلات ولاء أعلى بنسبة 35%. فهي لا تسهّل الإجراءات فقط، بل تمنح الموظف وقتًا وطاقة ليفكر، يبدع، ويشعر بأنه جزء من الحل، لا مجرد منفذ للتعليمات.
وفي السياق العُماني، يُعد "برنامج التحول الرقمي الحكومي" نموذجًا حيًا لهذا التوجه. فقد ارتفعت نسبة التقدم في تنفيذ المبادرات من 53% إلى 73% خلال عام واحد، وهي أكثر من أرقام... إنها إشارات على بيئة ذكية تُحفّز وتُلهم.
الموظفون الأوفياء لا ينتظرون من يُراقبهم، لأن ما يدفعهم للعمل ليس الخوف، بل الانتماء. إن بناء عُمان المستقبل لا يبدأ بالبنايات الذكية، بل بالإنسان. من موظف يرى في عمله رسالة، وفي مؤسسته وطنًا صغيرًا.
قد تُجبره اللوائح على تسجيل الحضور كل صباح... لكن الولاء لا يُؤمر به، بل يُرعى بالصبر والثقة.
فهل تسعى مؤسستك حقًا إلى بناء هذا الولاء؟
أم أنها تتركه يتآكل بصمت، دون أن تشعر؟
ربما آن الأوان لنسأل أنفسنا:
كم من موظف يعمل بجسده فقط؟ وكم منّا يبحث عن بيئة تمنح روحه سببًا للانتماء؟