أنف طويل

أحمد الرحبي

عندما يمل من (تصديقك) الجميع فأنت كذاب..

تعتبر حلوة ألسنتهم معشر الكذابين، فهي في ظاهرها تبدو كثمرة يانعة شهية، لكنها هي كأنما ثمرة مرفقة في كتاب مصور، فهي مجرد ثمرة من ورق، الكل يشتهي سماعهم عندما يتكلمون لكن لا فائدة تذكر في حصيلة ما يتكلمون به فما يتكلمون به ثماره مُرة، ولا نكهة ولا دسم لكلامهم فهو منزوع الدسم والطعم ولا فائدة ترتجى منه بالمرة تفيد أسماعنا أو تساعدها على مواصلة السمع بشهية لهم.

وإذا كان اللسان مجرد عضلة فإننا نجدها لدى الكذاب لم تنل المران الكافي للتعود على قول الحقيقة والإخلاص لها، فاللسان مجرد عضلة فاسدة لدى الكذاب لا تقوم بدورها على أكمل وجه فنتيجة فسادها يخرج الكلام مبلبلا من فم الكذاب لا يمكن أخذه على مستوى ومشرب واتجاه واحد، فالكذاب يستميت بكل مقدراته الذهنية البليدة ذلك النوع من البلادة التي يتميز بها الكذابون دون غيرهم، بأن يوحي لنا بأنّه حجر الزاوية لكل المستويات وأنه منبع ومعين المشارب كلها وأنه البوصلة للاتجاهات جميعها هذا ما يحاول الكذاب مستميتا أن يقنعنا به كبضاعة مزيفة يتوهم أنه يبيعها لنا في ركن مظلم شديد العتمة لا تضيئوه البصيرة.

وبرغم النظرة الاجتماعية إلى الكذاب وإلى الصفة المذمومة التي يمتاز بها هذا الكذاب وهي عدم قول الحقيقة أو التقصير والإهمال في حقها، فإن الكذب برغم ذلك يعتبر ذنبا تافها لا يضار منه أحد غالبا بشكل مباشر، ومهما تحاول بفضول أن تجد في جحيم دانتي وسط ألوان العذاب التي تحفل بها أودية الجحيم التي صورها الشاعر الإيطالي دانتي أليجييري بخيال خصب، المكانة أو الدرجة من العذاب التي فرزت بها زمرة الكذابين عن بقية المذنبين أو ذلك اللون بعينة من العذاب والتنكيل الذي خصت به هذه الزمرة، لكن سرعان ما يخيب ظنك كون دانتي لم يلحقهم بجحيمه ولم يأتي على ذكرهم مطلقا ولم يشر إليهم مجرد إشارة طوال مدة تنقله في الجحيم مع شفيعه الشاعر فرجيل، ربما لتفاهة الذنوب التي يرتكبونها مقارنة بما هو أشنع وأدهى من المذنبين الذين تستضيفهم أودية الجحيم، ومن المحتمل بأن دانتي خلفهم في المطهر وهي الدرجة الوسط ما بين الجنة والجحيم، ليكفروا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بألسنتهم وليستعيدوا براءتهم التي لوثوها بكذبهم، ففساد جارحة واحدة من جوارح الجسد هي كفيلة بتعريض الجسد كله للفساد.

ويمكننا القول بأن خاصية الكلام عند معشر الكذابين هي في حالة أزمة، وذلك بسبب التواء ألسنتهم التي تعتبر دائما غير مستقيمة عندما ينطقون بها، ومثلما هي ألسنتهم ملتوية فهم حريصون كل الحرص على أن يلووا عنق الحقيقة فهم يقدمونها هذه الحقيقة بعنق ملتو يشوهونها بألسنتهم، فهم مشوهون للحقائق دائما لا تروق لهم الحقيقة بدون أن تكون مشوهة خاضعة لإفتئاتاتهم و تخرصاتهم. هم مشوهون محترفون للحقائق، الصدق ليس بضاعتهم أبدا وحينما لا يطلب الصدق سوى من أهله فان الكذابين لا توفر لهم الصفات التي يتحلون بها الفرصة لذلك و لا ترتقي بهم إلى المستوى الذي يؤهلهم لتحري الصدق فيما هم يتكلمون، الكلام مهما كان مقدرة متقدمة للتعبير والإفصاح فهم يخونون هذه المقدرة، مهما نطق أو تكلم الكذاب فهو لا ينطق ولا يتكلم في الواقع فهو لا يصل إلى المستوى الحقيقي والواضح من النطق أوالكلام الذي يتحلى به كافة الناس.

وواهم هو من يحاول بأن يقنع نفسه بمتابعة الكذاب إلى حد الباب كما يقول المثل العامي، فلا باب للكذاب أصلا يهدف للوصول إليه، فالهدف من تعود الكذاب على الكذب غير موجود أبدا مهما توهمه، فالكذاب أتفه وأسخف من أن يخلص لهدف بعينه فلا هدف ولا غاية مهما كانت الغاية تبرر الوسيلة، ترتجى من كذبه، وحتى لو كذب تجملا فالكذب من أجل التجمل أسوأ تبرير للكذاب، فأين الجمال في ثوب مطرز بالزيف يرتديه الكذاب بواسطة الكذب؟

ولو جئنا في الأخير النظر إلى الكذب في الإطار الحقيقي وبدون مبالغة، فإن الكذب هو كسلوك يعكس أعراض مرض اجتماعي لا يخلو منه أبدا أي مجتمع من المجتمعات، فإن ممارسة الكذب تتغلغل بشكل عام في معظم العلاقات الاجتماعية، فمنه ما يتم تسويغه وتقبله بصدر رحب بداعي متطلبات الذكاء الاجتماعي، ومن الكذب الممارس بكثرة أيضا ذلك النوع الذي لا يعد كذبا صراحا بقدر ما هو من أجل التجمل إخلاصا لزركشة الحقائق وإبرازها من الزاوية الأقل قبحا، وهو ما يعد إطراءً نرجسيا مزيفا للذات، وهناك الكذب الأبيض البريء الذي لا يضار منه أحد لكنه لا يخلو من الإزعاج والسخف، ورغم أن محاصرة الكذب وجدت منذ ظهور الكلام كخاصية يمتاز بها البشر دون غيرهم من المخلوقات على الأرض، ولكن قواعد لعبتها تطورت كثيرا مثلما يؤكد ذلك فرامك هورفات أستاذ علم الإجراء في مدرسة العدالة الجنائية التابعة لجامعة ميشغان، ويوضح إنه إذا لم تكن أكاذيب اليوم بالضرورة أكثر حذاقة من أكاذيب الأمس فإن العلامات الفزيولوجية (الأخلاقية) والبسيكولوجبة (العلاقة بين السلوك والأعضاء) المرتبطة بالكذب عرفت تطورا حقيقيا. ومن الطرافة بمكان بأن احترام الخصوصيات عند الغير قد تعتبر الكذب حقا من حقوق الشخص لا يمكن المساءلة حوله، وهو مبدأ قانوني معمول به في فرنسا يعتبر الكذب حقا أساسيا، على خلاف أمريكا مثلا التي يلزم فيها كل شخص موقوف بقسم قول الحقيقة، فلا يمكن أن يتساهل القاضي مع من يدخل عليه بأنف طويل أبدًا.

تعليق عبر الفيس بوك