وسرقوا رمضان كذلك

جمال القيسي

من المفترض بالشهر الكريم -شهر الصبر والتأمل والرجوع إلى النفس ومحاسبتها- أن يكون شهرَ الكف عن ارتكاب الآثام والمعاصي؛ كما يفترض أن تكون هذه المكانة المقدسة راسخة في نفوس المؤمنين، أكثر من سواهم، وتنعكس على تصرفاتهم ومنشطهم ومكرههم؛ فإذا ما انطوى السلوك في هذا الشهر الفضيل على معصية وإثم؛ فهذا -بالمطلق- ليس من ذنوب الأيام المباركة، بل هو خلل في عقلية ونفسية من يدعي ويزعم الإيمان بالله والشهر الكريم، ولا يرعى حرمته أو يتمثل قيمه الروحانية العظيمة.

إذا اعتبرنا أنَّ المعاصي -وهي أقل درجة من الذنوب- مرفوضة في شهر الخير من المؤمنين به كفريضة كبرى، فإنه علينا -من باب أولى- أنَّ نتأمل فداحة ارتكاب الآثام في رمضان، والتي تدل على مدى الابتعاد القصي بل الانقطاع الفاضح عن معنى التعبُّد والاقتراب من الله. لكن ويا للأسى، ويا لدمارنا الروحي، ونحن ندرك أنَّ الأفعال المخزية التي تجري اليوم، كلها، تجري على أيدي شرذمة مجنونة من "المؤمنين الجدد" الذين صاروا وصمة عار يندى لها جبين البشرية وحتى فصائل الحيوان؛ فالسلوكيات، اليوم، ليست مجرد معاص أو حتى آثام كبرى، بل هي فظائع لا تغفر ولو صام مرتكبوها ألف دهر؛ و"كم من صائم ليس له من صيامه سوى الجوع والعطش".

حين نستعرض الجرائم (مفردة الجرائم قاصرة عن وصف الواقع) التي يرتكبها الإرهاب في شهر العبادات، نتأكد أنَّ حالنا صار دون الحضيض، وفي دَرَك لا يمكن الخروج منه بالتمني وذم الإرهابيين، كما نتأكد أنَّ الرعب صارَ يأخذنا إلى مساحات من التخيل المشروع بالخروج إلى أي مكان دون عودة، أو أن يخرج أحد أفراد الأسرة؛ فنعرف سببَ تأخره من نشرات الأخبار. وقد وقع هذا في الكثير من الحوادث الأليمة، حيث سمع الأهل وشاهدوا أحبتهم أمواتا غير أحياء في الأسواق والمساجد. صائمون قتلهم صائمون!

وفي المقابل، وهو الأشد خطرا، صارت مساحة الرعب تتسع لدى الأسرة العربية...وغيرها، في ضوء صدمة الكثير من أسر الانتحاريين بأن منفذ الهجوم ابنها لا سواه. صدمة فقد الابن وقد قتل الأبرياء دون أن تكون الأسرة على معرفة بأن ابنها كان ينطوي على هذا الخطر والفكر المتطرف الأعمى. كان الإرهاب بينهم، ينام ويصحو معهم، ولكنهم لا يشعرون به. منفذ هجوم تونس الأخير ومن قبله انتحاري متحف باردو صدما أهليهما حد الذهول وعدم التصديق، حيث لم تكن تظهر على الانتحاريين أية مظاهر تشدد، وكانا على درجة عالية من المرونة في أمور الدين، أمام الأسرة والأقرباء. وهذا كله مدروس من قادة التطرف؛ حيث تشير بعض الاعترافات، ممن ضبطوا قبل تنفيذ عمليات انتحارية أو ساعدوا في تنفيذها، إلا أن المجندين الإرهابيين لهؤلاء السذج، عبر شبكات الإنترنت غالبا، يوجهونهم إلى الاعتدال الظاهري في الدين كي لا يلفتوا أنظار الأجهزة الأمنية والأهل والأصدقاء!

رعب وشر مستطير أن يكون أقرب المقربين لك قنبلة موقوتة إلى جانبك وأن لا تدري!

أين كان كل هذا الشر مختبئا، كيف انفجر هذا البركان المرعب الذي تحرق حممه كل أطراف العالم. كتب التشدد والتحريض على القتال والموت ومحاربة المجتمع كله، موجودة منذ عقود طويلة و"لم تستخدم" على هذا الوجه المزلزل مطلقا. فمن الذي وجه الأنظار إليها؟ وما هي الحالة والمرحلة الجديدة التي دفعت إلى نفض الغبار عن هذه الكتب واستقاء الأسانيد الشرعية منها للانتحار والإفناء والقتل والتشريد والحرق والإغراق؟ هذه هي الأسئلة المطروحة على طاولة النقاش والتحليل. ولا نستثني أحدا من مسؤولية ثقافة الموت، بدءا من الأنظمة الاستبدادية التي مسخت الهوية ومفهوم الحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة. وما أتى به الاستبداد من دمار على مناهج التعليم، وهو أخطر دمار أوردنا وما يزال يوردنا المهالك.

رمضان لم يحفل به أحد من المؤمنين الجدد وكذلك الجامع والجمعة، وكل هذا التعامي والعماء عن حرمة المفردات العظيمة؛ مرده أننا لم نؤسس أجيالا قادرة على رد الفكر المضاد، الذي استل كتب التكفير ووضعها بين أيدي الآلاف، ممن يئسوا في رحلة بحثهم عن حلول، أو فهم لما يجري لهم دون باقي البشر.

تعليق عبر الفيس بوك