التعليم من أجل إضعاف الطائفيَّة

د.سيف المعمري

لم يكُن تفجير الكويت مُفاجئا لي؛ فقد كنت أُدرك أنه يُمكن أن يقع هنا أو هناك في دول المنطقة الخليجية التي كانت بعض دولها منذ عقود تشهد تناميا في دعوات التفكير والكراهية، وقد وثقت بعض الدراسات الطائفية التي كانت تعيشها هذه المجتمعات لكن لم يلتفت أحد لها؛ لذلك تبدو القراءات الأولية لما جَرَى مُضللة لا يُمكن الركون إليها في أي محاولة للتصدي إلى هذه الموجة المفجعة التي تؤرخ لتاريخ جديد من البربرية التي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا؛، فهذه القراءات لم تضع يدها على الأسباب الحقيقية التي قادت إلى تفتيت السلم الاجتماعي في بلدان تآلف سكانها على التعايش والتآخي دون أن ينشغلوا بالفوارق والاختلاف بينهم، فإرجاع الأمر إلى الفكر الديني المتشدد ليس هو العامل الرئيسي إنما هو عامل ثانوي أو نتيجة لعوامل أخرى أكثر تأثيرا، ومن المغالطة الالتفاف عليها في هذه اللحظة التي تتطلب القراءة الموضوعية لما يجري بغية البدء في اختيار الوسائل الأكثر منهجية في إعادة بناء سلم اجتماعي على المدى الطويل. والسؤال الآن: ما الأسباب التي قادت إلى تفريخ كل هذا التطرف والرجعية في منطقة لا تضاهيها أي منطقة في العالم في تبني أدوات الحداثة والتكنولوجيا؟

قد لا يبدو هذا السؤال جديداً، ولكنه حتمًا لم يُطرح بالجدية التي يطرح بها في هذه الفترة التي بدأت تفاصيلها تكتب باللون الأحمر؛ مما يعني أنها مرحلة حرجة لا أحد يعرف إلى أين تقود، سيما وأنَّ هناك محاولة لجعل هذه الطائفية عابرة للحدود من حيث دعواتها أو آثارها. فما يجري يمكن إرجاعه إلى فشل مشروعين كبيرين على قدر كبير من الأهمية في المنطقة؛ هما: مشروع بناء المواطنة التي تكرِّس الانتماء والمساواة بين أفراد المجتمع الواحد دون تمييز لأي منهم تبعا لأي عوامل. والمشروع الثاني هو مشروع التعليم الذي يبدو أنه لم ينجح أيضا فيإعداد أفراد قادرين على مناهضة القوى المعادية للحداثة، هذا الفشل في كلا الساحتين هيَّأ البيئة -سواءعن قصد أو دون قصد- لمنحهذه القوى الظلامية فرصًا لتعزيز خطابها طوال العقود الماضية؛ حيث كانت تقوم-وبمرأى من الجميع- بنشر سُمومها مُستندة إلى العديد من الوسائل؛ منها: المجلات، والقنوات التليفزيونية، والمحاضرات، والأشرطة، ومواقع الإنترنت...وغيرها، ويبدو أنَّها ما كانت لتصل إلى هذه السطوة لولا الحرية التي تمتَّعت بها في تطوير مواردها وإمكاناتها؛ حيث نجحتْ في التأثير على قطاع كبير من الأجيال الخليجية التي وجدت نفسها تتنازعها خطابات متعددة مشوَّهة تستغلها لأسباب مختلفة، وكانت السلطات تتحالف أحيانا مع هذه القوى لاستغلال الشباب لتحقيق أغراض معينة؛ حتى وصل الأمر إلى أنْ أصبح بعض هؤلاء الشباب قنابل بشرية يعدون لتفجير أنفسهم في بلدانهم وقتل أهلهم ومواطنيهم، بدلا من أن يتم بناؤهم وإعدادهم ليكونوا أداة تقدُّم وبناء في أوطانهم.

وما أودُّ أن أسلط عليه الضوء في هذا المقال؛ هو: فشل المشروع التعليمي في بناء المواطن الناقد في المنطقة الخليجية، ربما كانتْ الدول تستشعر الخطر من بناء مواطن بهذه المواصفات، حتى لا يقفُ في مُواجهتها وينتقد سياساتها، ويطالب بوجوده ودوره في صناعة القرار؛ لذلك كانت الغلطة القاتلة في توجيه التعليم إلى إعداد شخصيات مطيعة مستقبلة للحقيقة المطلقة التي توضع لها إما في الكتب المدرسية أو من خلال شاشات التليفزيونات الرسمية؛ وبالتالي لم يكن التعليم مشروعَ بناء للفكر وحرية الاختيار بقدر ما كان وسيلة لغرس قناعات جاهزة دون إقناع أو اقتناع، وزاد من خطورة الوضع نوعية المحتوى الذي يدرس وبالذات التربية الإسلامية التي لم تقدم للطالب بصورة تساعده على فهم أفق دينه، وشمولية مبادئه، وتصالحه مع الحداثة وتجسيده لها منذ بداية الدولة الإسلامية في المدينة على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث أسَّس مجتمعا قائما على دستور مكتوب، أُطلق عليه "صحيفة المدينة"؛ جسَّد فيه فكرة التنوع وقبول الآخر، لم توظَّف هذه المادة لتوضيح تركيز القرآن الكريم على فكرة الاختلاف وحكمة الله سبحانه وتعالى من ذلك، لم توظف هذه المادة في مساعدة الطلاب على فهم الأخوة الإسلامية التي جسدها الأنصار والمهاجرين منذ أيام الإسلام الأولى؛ حيث كانت المادة تدرَّس بعيدا عن كل هذه المعاني وبطريقة تقليدية تلقينية لا مجال فيها للحوار والنقاش وربطها بقضايا العصر المختلفة، وحتى عندما جددت بعض الدول من مضمون هذه المادة، ثار البعض انتصارا ضد هذا التوجه، وجعلوها قضية كبرى لم يهدأ ضجيجها حتى اليوم؛ وبالتالي فإنَّ الشخصية الضعيفة في رأيها، الضحلة في فهم دينها، غير قادرة على اختبار الخطاب الذي يعرض لها التي خرجها النظام التربوي هي التي تلقفتها هذه القوى وبدأت في تلقينها الكراهية والانتصار لطائفة بعينها؛ مما قاد إلى انقسام حارات وقرى إلى قسمين، لم يتخيل أهلها أنهم يوما ما سيصبحون كذلك، أو أن من أولادهم من سيصبحون قتلة لهم نتيجة تعليم هذه الكراهية.

من المؤسف أنَّ الإصلاحات التعليمية المتتالية التي قامت بها بعض دول الخليج العربية في العقود الأخيرة ذهبتْ بعيدا عن الأولوية القصوى إلى التركيز على أولويات ثانوية؛ فهي لم تركز على فكرة "العيش معا" في وطن واحد، وما يتطلبه ذلك من بناء حوار ونقاش واستعراض القواسم المشتركة، ودراسة الآثار الفادحة لغياب ذلك التعايش؛ حيث يجد المواطنين أنهم يعيشون في بلد واحد، لكنهم لا يجمعهم هدفواحديعملون معا على تحقيقه، كما أنها لم تركز على "التربية من أجل المواطنة" وما تتطلبه من احترام لحريات الآخرين ومعتقداتهم، لقد ذهبت الأنظمة التعليمية بعيدا عن هذه الأولويات لتركز على متطلبات سوق العمل، فأيهما أكثر إلحاحاً تعزيز الوحدة الوطنية أم تعزيز مهارات سوقالعمل الذي لم تعمل فيه إلا نسب ضئيلة جدا من المواطنين؟ هذا سؤال لابد أن يُطرح اليوم على القيادات التربوية في المنطقة الخليجية؛ لأنَّ التعليم يُعد مسؤولاً رئيسيا اليوم في بناء أجيال معادية للطائفية وتقسيم الأوطان، كما أنَّ المدارس لابد أن تتخلى عن التلقين السلبي الذي لا يتيح للطلبة اختبار الأفكار والآراء؛ لأنَّ ذلك فيه حماية لهم من الرسائل المفخخة التي تستهدف استغلالهم باسم الدين.

... إنَّ تعليمًا ظل طوال عقود يُفكر عن هذه الآلاف من الطلاب، يُعتبر عاملا رئيسا في نمو الطائفية وازدهارها، وإنَّ أي مواجهة لهذا الفكر تتطلب تغييرًا في الفلسفة التربوية التي لابد أن تعمل على بناء إنسان يعرف أنَّ الله كرَّمه بالإسلام من أجل أن يبني به حضارة، لا أن يجعله أداة لتدمير الإنسان والحضارة. وإن لم نحدث تغييرا في التعليم؛ فهناك عشرات الآلاف من الطلاب في المنطقة مُعرَّضون للتأثر بهذا الفكر الذي أصبحت قياداته وأدواته أقوى من القيادات التربوية في المنطقة، وأكثر متابعة لهدفها من متابعة هذه القيادات التربوية.

saifn@squ,edu,om

تعليق عبر الفيس بوك