رسالة صغيرة في برواز القيم

زينب بنت محمد الغريبية

أثناء صفي للسيارة في الصباح الباكر في مواقف الوزارة، كان المكان ضيقًا ومزدحمًا، واصطدمت بسيارة كانت مصفوفة في الموقف المجاور لموقفي، تأثرت تلك السيارة قليلاً من الخلف، فكتبت له ورقة أعتذر فيها عمّا بدر مني من خطأ غير مقصود، وكتبتُ رقم هاتفي للاتصال من أجل إصلاح ما فسد في سيارته، بعد فترة من الزمن اتصل صاحب السيارة، وهو متفاجئ مما فعلته، حيث أبدى تقديره لموقفي حيث سجلت له اعتذاري، ووضعت رقمي، فقال لي هذا فعل قلَّ من يصنعه، فقد تعرضت قبلها للموقف وكان الضرر الذي لحق بسيارتي أكبر من هذا ولم أعرف من الفاعل، ولأجل موقفك هذا فأنا أكتفي بشكرك وسأصلح سيارتي بنفسي، لم أقبل فلابد من أن أدفع ثمن غلطتي، إلا أنّه أصرَّ بسبب نبل الموقف على حد قوله.

كان متفاجئاً، لدرجة أشعرتني بأنّ القيم الإنسانية أصبحت استثناءً بين الناس، وأن السائد هو التحايل والهروب من الالتزام بالصحيح، لا أقول بأنّه لا يوجد من سيقوم بهكذا مواقف، وغيرها في مواضع أخرى، ولكن يبقى السائد في هذه الحياة التملص من ممارسة القيم الصحيحة، بحجة الظروف الاقتصادية أو ربما استغلال المنصب طالما أنا موجود فيه، فغيري سيفعلها إن أتى وأنا لن أصلح الكون، سأستفيد فأنا راحل عن هذا الكرسي، ولماذا أكون عكس التيار فالكل سيفعل هكذا لو كان بموقفي، ويتساهل البعض في مواقف بسيطة وهم لا يدركون أنه لا تًغادر صغيرة ولا كبيرة عند الله حتى ولو كانت بوزن مثقال الذرة.

في أماكن عدة في العالم وضعت مكتبات على أرصفة الطرق، بدون شخص يبيع، ولا أجهزة مراقبة، مكتوب على الكتب والقرطاسيات أسعارها، وخصص مكان ما للدفع، فالرقابة تكون ذاتية من يأخذ شيئًا ما من المكتبة، يدفع ثمنه في المكان المخصص برقابة ذاتية على نفسه، وقد كللت هذه التجارب بالنجاح.. سؤالي هنا هل لو طبقت هذه الفكرة على المكتبات أو بضائع من الكماليات أو المواد الغذائية ستحقق نفس النجاح؟!.

يُحدثني شخص مقرب يومًا ما كان يسحب مبلغًا من المال من البنك، وقد أضافت له موظفة البنك بالخطأ مبلغ (1500) ألف وخمسمائة ريال عماني، وبعد أن انصرف من البنك وعدّ النقود، وجدها تزيد بهذا المبلغ عن المبلغ المفترض سحبه، فقال في نفسه إنّ هذا المبلغ سيُحسب على تلك الموظفة البسيطة، وستضطر لدفعه من راتبها الذي بالتأكيد هي بحاجة إليه لتدبير شؤون حياتها، فعاد بالمبلغ الزائد إليها، لم تصدق ما سمعته منه، فلم تكن قد اكتشفت خطأها بعد، شكرته كثيرًا، وأظهرت له الامتنان، كانت السعادة ستنشق من عينيها وهي تقول له: ليس في هذا الزمان من يُعيد نقودا جاءته بهذه الطريقة. هل أصبح النبل والأمانة قيمتان نادرتان في هذه الزمان؟ لماذا؟.

لماذا ابتعدنا عن أصلنا، الإسلامي القيمي السليم، الذي لو مضينا على شريعته في الحياة لصلحنا وصلحت حياتنا بأكملها؟ لماذا نترك أنفسنا لاختلال القيم، حتى أننا لم نعد نستطيع أن نمنح ثقتنا لأيّ شخص في معاملة مالية أو إدارية خوفاً من الغش والتلاعب، ولم نضمن شراء بيت جاهز، حيث تسود تسميته بالتجاري، أي بالمعنى الصريح المغشوش في أدواته وبنائه، ويباع بأغلى الأثمان كأنّ كل ما يحتويه عالي الجودة، وفوقه سيل من القسم بالكذب على ألا غش فيه ولا تقليد، وكم من ضياع في القيم في هذه العملية، من كذب واحتيال وغش وقسم بالباطل وتلاعب بمصائر الناس. فماذا لو تم بناء بيت بأدوات جيدة وبيع الجيد للناس؟ ماذا سيخسر المقاول؟ ألا يكون ربحه من الحلال والإخلاص في العمل؟ أين ذهبت قيمنا؟.

على جميع الأصعدة وفي كل مكان تولي وجهك، تجد هناك من يستهين بالقيم، ويضرب بها عرض الحائط، كنا ذات مرة في زيارة لأحد المعارض المؤقتة الكبيرة، ووسط ازدحام الناس، وامتلاء المواقف المخصصة للسيارات، وجدنا موقفاً للسيارة حيث إن السيارة التي وقفت كان صاحبها يستعد لإخلاء الموقف، وقد انتظرنا خلفه حتى انتهى من تحميل أغراضه، والركوب وتشغيل السيارة، وما أن ذهب أتت سيارة أخرى من خلفنا وبسرعة فائقة ليستولي صاحبها على الموقف، عندما فتحنا النافذة لنستفسر منه عن سبب تصرفه فربما لم يلاحظ إشارة السيارة ووقوفنا منذ فترة، ما كان منه إلا أن أخذ يرفع صوته، ماذا تريدون هذا موقفي وقد أوقفت سيارتي، وهي ليست للحجز... وأخذ يهذر بكلام ليس ذا معنى، فلم يكن باستطاعتنا مجاراة من لا يملك حس الاحترام ولا الإحساس بمعنى القيم. فكان أن رددنا على السفيه بالسكوت عنه كما يقول المثل.. أين نحن من قيم تشوهت في أبسط المواقف التي لا تحتاج إلى جهد ولا مال؟ لا تحتاج منا سوى أن نظهر بمظهر المسلم الإنسان الحق..

قد يعارضني البعض بقوله إن هذه فقط مواقف ولا يمكن تعيممها، أو أن نقول إنها ظاهرة سائدة، ولكنني أشدد على أنها ظاهرة، وأن السائد هو فساد القيم، وأن الصدق والأمانة أصبحا عملتين نادرتين، وأن الظاهر في معاملاتنا بعدا عن قيمنا الأصيلة، وأننا لابد من أن نراجع أنفسنا، ونكتشف الخلل، وإني أرى أن المبادرة في تقويم الوضع الراهن أمر ضروري ومُلِّح، فحتى نُغير المجتمع ونوجهه لابد من التكاتف والإصرار على التغيير، من جميع المؤسسات المعنية ابتداء من الأسرة التي يقع عليها العبء الأكبر في بناء القيم وصقلها، والقدوة في سلوك القيم الصحيحة، والتأكيد على دور المدرسة بما فيها من مناهج وأنشطة ومعلمين وإداريين، والإعلام والمسجد والسلطات التشريعية والجزائية.

وإن من أهم الركائز في هذا الموضوع، تنمية الرقابة الذاتية، أو ما يسمى بالضمير، فبصلاحه سيصلح الإنسان، فإن أصبح الإنسان رقيبا على نفسه، دون انتظار من يقومه أو يوجهه أو يعاقبه، بل يبادر بنفسه، صلح المجتمع، فحسن الخلق زينة للإنسان، وسبيل صلاح المجتمع، ورقيه وتقدمه..

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك