الطفل الذي خطفته الضبعة

للزمن متغيراته وحساباته المتسارعة، ومن المعروف سلفاً أنّ الابتكارات الإنسانية في السنوات الأربعين الأخيرة قد تدفقت بصورة مدهشة، أعجزت العقول عن الاستيعاب ومعظم هذه الابتكارات لصالح البشرية.

في زيارتي العائلية المعتادة للأسرة كل جمعة، حيث نتجمع في بيت أكبرنا سناً، يتراكض الصغار بفرح واضح وبعبثية الطفولة وجمالها الفياض ابتهاجًا بهذا التجمع، ولأنّ العبث الطفولي عندما يزداد يتحول إلى ضجيج، كنا نطردهم بعيدًا عن صالة تجمع الكبار، ونرسلهم للغرفة المخصصة لهم، لكنهم سرعان ما تضيق حركتهم بالجدران الملتفة على أركان الحجرة، إذن الحوش الخارجي هو الحل، خاصة وأن التجمع هناك يكون مساءً، حيث تقفل أبواب الخارج المؤدية للشارع ليفعلوا ما يشاءون ويغردوا ما طاب لهم التغريد، تصلنا أصوات الضحكات أو البكاء الكاذب من أحدهم بين الفينة والفينة، لكنهم في مجمل الحال فرحون عابثون سعداء، وفي الجانب الآخر يجلس الكبار في راحة شبه تامة، مطمئنين على أنّ فلذات القلوب في استمتاع، هذا هو الحال لتجمعنا الكبير في بيت العائلة، وأعتقد هو حال كثير من الأسر العمانية، هذه الجمعة حضر البعض وتجمع الصغار في غرفتهم لكن أمرًا ما مختلف حدث فالأقدام قل تراكضها والأصوات قل ضجيجها بل شبه انعدم، والضحكات لاحس لها، والحديث يتجول بين الكبار، كانت أذني الثانية مع الفئة الأخرى التي يستغرب منها هذا الهدوء ...سألتُ الجالسين أين الأطفال؟ الإجابة: في غرفتهم، ما الذي عقَّلهم هكذا؟ الجميع انتبه، فعلاً اليوم لاصوت لهم ... وتواصلتْ الأحاديث، لكنني مازلتُ مشتتة الذهن ومتواجدة هنا بأُذن واحدة، انسحبتُ بخفة لغرفة الصغار وجدتُ الجميع يبحلقون في جهازي تلفون بيد طفل وأخته، واضح أنّهم يتفرجون على برنامج مسلٍ من برامج الطفولة وألعابها في الآي باد، لكنهم جميعًا لم يحضروا الآيباد معهم، فقد منعناهم يوم الجمعة من اللعب بالآيباد . سألتهم ماذا تفعلون قالوا نتابع برنامج لمسة، ولما كنتُ بعيدة عن برامج الأطفال الإلكترونية، سألتُ وما هو لمسة؟ وصلتني إجابات فوضوية، ورجعتُ للكبار، سألتُ الأم التي يمسك أطفالها بالتلفون ما هو برنامج لمسة، قالت هذا برنامج تعليمي ممتاز وأولادي استفادوا منه، قلتُ هل تأكدت من البرنامج، نعم طبعًا، لا تخافي هذا البرنامج حتى التلفزيون يعمل له دعاية ليتعلم منه الأطفال، طبعًا هذا أمر جيد لكن من أين لطفلك وبنتك هذه التلفونات، ردت: هي تلفونات رخيصة، يشغلون عليها الإنترنت، حتى لا يزعجونا، ما شاء الله في البيت كل واحد معه آيباد وخارج البيت كل واحد عنده تلفون وإنترنت، غريب هذا الحل، ابنك عمره خمس سنوات والبنت 3 سنوات وليل نهار في الإجازة عيونهم وأدمغتهم في هذه الأجهزة، وأين الركض والنشاط واللعب مع الأطفال، ولماذا سرقت بهجتهم وطفولتهم بهذا الشكل، ألم نتفق أن يوم التجمع هذا نترك للأطفال حرية اللعب مع بعضهم البعض، الأم: أولادي مزعجين وهم أكثر الأطفال إزعاجا هنا، لذا طالما أنهم مبسوطون وهادئون اتركوهم يلعبوا بالأجهزة، صعقتُ لرد طبيبة المفروض أنها تعرف أضرار الإشعاعات الصادرة من هذه الأجهزة وأضرار هذه الأجهزة على العين والدماغ، والأهم على براءة الطفل، ضحكتُ ضحكة شر البلية، فقد ذكرتني هذه الأم بأسطورة عمانية تقول: إن إحدى الأمهات تركتْ وليدها نائماً في (المنز) سرير الطفل الصغير الهزاز، وذهبت مع صاحباتها لتستقي من الفلج، ثم جاءتها امرأة تجري قائلة: فلانة ألحقي طفلك أخذته الضبعة، قالت الأم : يبكي ولأ ساكت، المرأة: ساكت، الأم: أتركوه طالما هو ساكت ..!!! طبيبتنا اليوم كرَّرتْ نفس فعل جدتها القديمة مع اختلاف مستوى التعليم، لكن الوعي غائب لدى المرأتين، ستقولون: إنك تبالغين فمن خطفته الضبعة ليس في خطورة من خطفته التكنولوجيا، وأنا أرى أن كلا الوسيلتين هي منتهى الخطورة، وأن التكنولوجيا اليوم هي الضبعة لكن بوجه معاصر، لا يمكن أن تمسك طفلة الثلاث سنوات أجهزتها ليلا ونهارا ونتوقع منها أن تكون طبيعية، أين دورك أيتها الأم، أين حنانك وضمك لأطفالك تحت جناحي الحنان والرحمة، أين خفقان قلبك الذي ينبغي أن يتسرب إلى قلبيهما الصغيرين ويتذكر كل منهما هذه الأحضان عند الكبر فيحتويانك ويخفضان لك جناح الذل من الرحمة، أين دورك في تسريب الحكايات الشعبية التراثية العمانية لأطفالك وهي حكايات مدهشة ورائعة وتستقطب خيال الطفل أكثر من أيّ قصص لا تمثله يراها في الآيباد . أين دورك في تحفيظه شيئاً من القرآن الكريم والأحاديث وشرحها، وشيئا من الأغاني الطفولية التراثية والذاكرة العمانية مليئة بها ، لماذا تكاثرت الشهادات، طبيبة معلمة مهندسة، وقلَّ الوعي، والحنان، ثم نريد أولادا بررة، من أين يا عزيزتي ولم تمنحي شيئًا من الروح لتربي الروح، مشكلتنا نحن العرب تلك المبالغة في كل شيء وذلك التطرف في توجهاتنا، إنها إحدى صفاتنا المذمومة، منذ عام وصلتني عبر الواتساب رسالة، متأكدة أن معظم القراء قد أطلع عليها لغرابتها، تقول الرسالة إن مخترع الآيفون والآيباد والآي بود، لا يسمح لأبنائه باقتنائها، والمخترع هو ستيف جوبز، وهو الاسم المرادف لأحدث الابتكارات الرائدة في عالم التكنولوجيا - قبل وفاته - لذلك كان من المفاجئ أن نعلم أن الرئيس التنفيذي لشركة أبل لم يكن يسمح لأولاده باقتناء أهمّ منتجات شركته ( الآي فون والآي باد والآي بود! ) والسؤال لماذا لا يسمح لأولاده أن يمتلكوها؟ لقد كان جوبز يُعبّر دائماً عن تخوّفه من تأثير استخدام الأولاد لهذه الأجهزة الإلكترونيّة، فهل يمكن أن تكون هذه الأجهزة مضرّة لأولادنا أكثر مما هي مفيدة؟ نعم كان ستيف جوبز يعتقد ذلك، ففي مقال له في نيويورك تايمز صرّح متجاوزا لدهشة الكلّ أن أولاده لم يستخدموا منتجات شركة أبل الأهمّ. لأنّه يحدّ من استخدام أولاده للتكنولوجيا في المنزل "، كانت مخاوف جوبز تتعلّق بالآثار السلبية على المدى الطويل الناتجة عن استخدام الأطفال للتكنولوجيا والشاشات التي تعمل باللمس، لساعات طويلة غير محدّدة، يقول :" أولادي يتهمونني أنا وزوجتي بأننا فاشيين، ويقولون إن أيّاً من أصدقائهم لا يخضعون للقواعد نفسها، أتعرفون لماذا ؟ هذا لأننا رأينا مخاطر التكنولوجيا مباشرة، لقد رأيت ذلك بنفسي، أنا لا أريد أن أرى ذلك يحدث لأطفالي ".
وبالفعل فإن باحثين في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس نشروا مؤخراً دراسة أظهرتْ أن بضعة أيام فقط بعد الامتناع عن استخدام الأدوات الإلكترونية، تحّسنت المهارات الاجتماعية للأطفال، كما أظهرت الدراسة أن الولد العادي يمضي أكثر من سبع ساعات ونصف يومياً باستخدام الهواتف الذكية والشاشات الإلكترونية الأخرى، يقول ستيف جوبز: " كل مساء أجلس مع أولادي لتناول وجبة العشاء على طاولة كبيرة في المطبخ، ونناقش الكتب والتاريخ ومجموعة متنوعة من الأشياء. لا أحد منّا يسحب آي باد أو آي فون أو أي جهاز آخر ليغرق فيه وينعزل، ولهذا لا يبدو أولادي مدمنين على الأجهزة الإلكترونية على الإطلاق ".

الخلاصة : أن هذا الأمر تحول إلى إدمان بالفعل، وأن جميع الآباء والأمهات المعاصرين يعرفون أن هذه الأجهزة تجذب الأطفال، ويجد الأهل فيها حلّا لتسلية الأولاد وإلهائهم وتهدئتهم أثناء العطلات المدرسية وفي الرحلات الطويلة بالسيارة أو عندما يكونون منشغلين، لكن رجاء أيها الآباء في المرّة القادمة التي يلحّ فيها أولادكم عليكم لتجديد أجهزتهم الإلكترونيّة تذكّروا فقط، أن الرجل الذي اخترعها يفكّر بطريقة مختلفة تماماً. هؤلاء هم، وها نحن المسرفين في كل شيء، والمستوردين لكل ساقط ولاقط، والمجربين في أولادنا كل ماهبَّ ودبَّ، فإن كبروا وخرجوا عن طوعنا وديننا وعاداتنا لمنا الزمان الذي تغير، والأجيال الغريبة التي تغيرتْ، ولم نعد نعرف لها حلا، والزمن هو هو لم يتغير، نحن الذين قلبنا عاليه أسفله، وركنا إلى الحلول السهلة مرددين : دعوهم يتسلون، دعوهم هادئين لا يزعجونا ونحن بهذا نأكل أدمغتهم، ونحرق طفولتهم وننتهك براءتهم، ولكم الله يا أطفالنا، لكم الله، لقد اختطفتكم الضبعة، ومن الصعب أن تعودوا .

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

تعليق عبر الفيس بوك