فهم الذات

 

د. رضية بنت سليمان الحبسية **

** أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى

RadhiyaAlhabsi@unizwa.edu.om

 

كثيرة هي المتناقضات التي نعيشها داخل ذواتنا؛ نتيجة اضطرابات وخلل في جوانب شخصياتنا، وأساليب تنشئتنا، بل والظروف المحيطة بنا. فانعدام التوازن بين ما نملك من قدرات وما نريد أن نكون، يفضي إلى شخصيات مهزوزة، مشككة فيمن حولها: في التعاملات، العلاقات، وردود الأفعال المنطقية. هنا تكمن أهمية معرفة الفرد لذاته، من خلال التأمل الصادق في كيان شخصيته، وفي إطار دائرته الداخلية أولًا، وفي الدوائر المُحيطة به ثانيًّا.

إنَّ أول مداخل فهم الذات، تتمثل في تحليل شخصية الفرد لنفسه، نقاط قوتها، وضعفها، كفاياتها، وخصائصها. ولن يكون له ذلك إلا بمكاشفة نفسه شفافيةً لا تدليسًا، فالإنسان وحده من يجرؤ على مصارحة ذاته، دون حجب تفاصيلها؛ خشية استجابات غير مضمونة من آخرين، أو تقزيم لقيمته، أو استخفافًا لتصرفاته، أو تغذية راجعة غير عادلة.

وحيث إنّ تحديد مواطن القوة، يساعد الفرد على تنميتها واستثمارها لبلوغ طموحاته، فإنّ معرفة جوانب القصور والعيوب الداخلية، منطلق لتطويرها والتخلص من تبعاتها. إذ يُعدّ ذلك معيارًا يمكّن الفرد من تحديد صفاته التي يتميز بها. فالكمال لله وحده، حقيقة يجب إدراكها والإيمان بها ظاهرًا وباطنًا.  فالاعتراف بوجود النقص لا نقصًا في شخصية الفرد، إنما شجاعة ورغبة في تخطيها، لا تجاهلها، مما يؤثر عليه أداءً أو خُلقًا معايشًا.

ولمساعدة أنفسنا على إصلاح عيوبها، وإيجاد مكانة إيجابية مع من حولها، هناك ثمَّة تساؤلات، قد تعين الفرد على تحديد ماهيته. كتلك التي تحرك بداخله رغبة في إكمال نواقص شخصيته، كأن يتساءل: من أنا؟ وماذا أريد؟ وبالمقابل يستعرض من هم في الدوائر المحطية به: ماهيتهم، اهتماماتهم، وصفاتهم، حيث يمكّنه ذلك من معرفة ذاته ومعرفة الآخرين. وإنْ صَعُبَ عليه الاهتداء لمعرفة دقيقة ببواطن الأمور. غير أنها معينات؛ لضبط النفس، وتقدير الآخرين، وتحسين علاقاته بهم.

إنّ تفكّر الفرد فيمن يحيط به من شخصيات، إذ لها من غايات ما لها، بما لا تتفق مع غاياته، ومسالك قد لا تتوافق مع قناعاته. إذ ليس في ذلك نهاية الكون، فالاختلاف فطرة، رحمة، ووسيلة للإبداع البشري. في حين النمطية، والتقليد مدعاة للجمود، ودحض للأفكار. وبالتالي، فإنّ الوعي بهكذا حقائق يُجنّب الفرد مهالك الخصام. والاختلاف في الآراء، لا بالضرورة فيه عداء. فالحياة أبسط من تعقيدات يشكلها الخيال، أو ينسجها العقل، والذي هو أخطر ما يمكن أن يكون على الفرد، إنْ لم يحسن التدبُّر، أو يتقن المحاكمة العقلية.

وفي هذا المقام، يُمكننا الاستفادة من نافذة جوهاري، وهي تقنية تُستخدم لمساعدة الناس على فهم علاقتهم مع أنفسهم ومع الآخرين، كما تُعدّ طريقة جيدة للتعرف على الذات وأبعادها. وهي من إعداد عالمي النفس جوزيف لوفت (1916- 2014) وهارينغتون انغهام (1916-1995) عام 1955م(ويكبيديا)، حيث قما بتقسيم الشخصية إلى أربع مناطق من خلال نافذة تُعرف "بنافذة جوهارى"، والتي ينتج عنها أربعة أنماط من الشخصية تتعلّق بالوعي الذاتي، وتكوين علاقات اجتماعية مع الآخرين. وفيما يلي عرض لتلك المناطق:

1-  المنطقة المفتوحة أو منطقة النشاط الحر: فهي تمثّل ما يعرفه الشخص عن نفسه ويعرفه الآخرون عنه. أي السمات التي يدركونها جميعًا. فعندما يتقابل شخصان لأول مرة، تكون مساحة المنطقة المفتوحة بينهما ضيّقة، وفرصة تبادل المعلومات والتعارف قليلة، وفق الفترة الزمنية المتاحة. لذا على كلا الأطراف العمل على زيادة مساحة التفاعل والتواصل فيما بينهم، وبالتالي الانفتاح بشكل أكبر، وتكوين علاقات أكثر مرونة وتعاونًا.

2-  المنطقة العمياء: تمثل هذه المنطقة ما يجهله الشخص عن نفسه، وما يعرفه الآخرون عنه، وهم من يختارون ما إذا كانوا سوف يُعلِمونها للفرد أم لا. كأن يُقدّم للفرد ملاحظات تطويرية على سلوكه، التي قد توقعه في مواقف حرجة مع الآخرين، دون وعي منه بقصور أو عيوب داخلية. وهنا تكمن أهمية أخذ الفرد بالتغذية الراجعة المقدمة له؛ لتزيد من فهمه لذاته، وبالتالي تحسين علاقاته بالآخرين.

3-  المنطقة الخفيّة أو منطقة القناع: ما يعرفه الشخص عن نفسه، ولا يعرفه الآخرون، ويعود للشخص نفسه ما إذا كان سيكشفها أم لا، كالطموحات، التطلعات، والاهتمامات. ومن خلال الكشف عن الذات، يمكن تقليص هذه المساحة بين الأطراف، فيكون التعامل في تناغم وتعاون بنّاء.

4-  المنطقة المجهولة: فهي تمثل سلوكيات الفرد أو دوافعه التي لم يتم التعرف عليها، وقد يعود ذلك إلى عدم وجود تلك السمات أو الجهل بها من قبل الفرد نفسه، والآخرين أيضا. ولهذه المنطقة انعكاسات على سلوكياتنا وعاداتنا اليومية، التي يمكن أن تزيد من مساحة عدم فهم الذات، وبالتالي ضمور وتذبذب في العلاقات الاجتماعية.

هنا تأتي أهمية العمل على تحليل سمات الشخصية، باستخدام نماذج معتمدة عالميًّا؛ للتعرف على خصائص الفرد من خلال نمط شخصيته؛ وبالتالي الاستفادة منها في تقليل الفجوات بين المخزون من الصفات والظواهر من السلوك، وبالتالي تقوية الروابط مع الآخرين.

ختامًا.. لفهم الذات سُبل وآليات إجرائية، منها: التفكير بإيجابية، تعزيز قدرة الفرد الذاتية، مجابهة الشعور بالغيرة، حسن الظن في الأقوال والأفعال، خفض سقف توقعاتنا للآخرين، التعامل البنّاء، النية الصادقة لتحسين عاداتنا السلوكية، بذل الجهد في تقريب المسافات بين الأفراد، وتقبل النقد والتوجيهات التحسينية. فضلًا عن قواعد كثيرة للتعامل مع النفس؛ لتحقيق سعادة داخلية، وعلاقات إنسانية أكثر جودة وفعالية. قال تعالى: "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" (القرآن الكريم، القيامة: 14).

تعليق عبر الفيس بوك