عيسى الغساني
يُعد مبدأ اليقين القانوني من الركائز الجوهرية لسيادة القانون، لما له من دور محوري في حماية الحقوق، واستقرار المُعاملات، وتعزيز الثقة في النظام القانوني. ويهدف هذا المقال إلى بيان مفهوم اليقين القانوني، ومرتكزاته الأساسية، مع إبراز إشكاليات الصياغة القانونية غير الواضحة، وتحليل بعض النماذج المقارنة في القانونين الفرنسي والألماني، وصولًا إلى إبراز أهمية الضبط المؤسسي في الحد من الغموض التشريعي وتعزيز قابلية التوقع القانوني.
الكلمات المفتاحية: اليقين القانوني، سيادة القانون، وضوح النص، قابلية التوقع، الصياغة القانونية.
يشكل اليقين القانوني أحد الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها النظام القانوني في الدولة الحديثة؛ إذ لا تتحقق سيادة القانون إلّا إذا كانت القواعد القانونية واضحة، مستقرة، وقابلة للتوقع في تطبيقها. فالقانون الغامض أو المتقلب يفقد وظيفته التنظيمية، ويقوض ثقة الأفراد في العدالة، ويضعف استقرار المعاملات القانونية.
يقوم اليقين القانوني على مجموعة من العناصر المتكاملة، تتمثل في وضوح القاعدة القانونية، واستقرارها النسبي، وإمكانية تطبيقها بصورة متسقة. ويتيح ذلك للأفراد توقّع الآثار القانونية لأفعالهم، ويعزز الشعور بالأمان القانوني. كما يرتبط هذا المبدأ ارتباطًا وثيقًا بالتفسير القضائي والممارسة الإدارية، بوصفهما أداتين فعليتين لتجسيد القاعدة القانونية على أرض الواقع.
يُقصد بوضوح النص القانوني أن تكون القاعدة مصاغة بلغة دقيقة، خالية من الغموض، مفهومة في مفرداتها وتركيبها، بحيث يدرك المخاطَب بها مضمونها دون حاجة إلى تأويل موسّع أو اجتهاد مفرط. ويتحقق ذلك من خلال الصياغة المحكمة، وبساطة التعبير دون إخلال بالمعنى، وتجنب العبارات الفضفاضة، مع تحديد المخاطبين والأثر القانوني للنص، وضمان انسجامه مع باقي المنظومة التشريعية.
تتجلى إشكاليات الصياغة القانونية بوضوح في بعض المفاهيم المفتوحة، مثل مفهوم النظام العام في القانون المدني والإداري والدولي الخاص، حيث يؤدي غياب تعريف جامع مانع إلى تباين التفسير القضائي، ومن ثم ضعف قابلية التوقع. ويقر الفقه الفرنسي بأهمية هذا المفهوم، لكنه يحذر من خطورته إذا لم يُضبط بمعايير قضائية واضحة.
كما يظهر الإشكال ذاته في معيار السبب المشروع لفسخ العقود، الذي أسفر عن اختلافات قضائية أثّرت سلبًا في استقرار العلاقات التعاقدية. ويضاف إلى ذلك مبدأ الأخلاق الحميدة في القانون الألماني، الذي يفتقر إلى تعريف تشريعي دقيق، ويُترك تحديد مضمونه لاجتهاد القضاء.
سعيًا لمعالجة هذه الإشكاليات، اتجه المشرّع الفرنسي إلى تعديل القانون المدني عام 2016، بما عزز من وضوح النصوص وزاد من تفصيلها. في المقابل، اعتمد النظام القانوني الألماني على الدور المحوري للقضاء في ضبط المفاهيم العامة، من خلال تطوير اختبارات قضائية ومعايير تفسيرية مستقرة، مدعومة بالمذكرات التفسيرية والتكوين القضائي المستمر، مع الحرص على تقييد الأثر الرجعي للاجتهادات.
يثبت التحليل أن الغموض القانوني لا يتحول إلى أزمة إلا في حال غياب الضبط المؤسسي. وتبرز التجربة الألمانية نموذجًا واضحًا لذلك، حيث يقوم الضبط المؤسسي على أربعة معايير رئيسية: مشروعية الهدف، وملاءمة الإجراء لتحقيقه، وضرورة الإجراء لعدم وجود بديل أقل تقييدًا، وأخيرًا الموازنة بين المنفعة المتحققة والضرر الواقع على الحقوق.
إنَّ اليقين القانوني ليس قيمة نظرية مجردة، بل شرط عملي لا غنى عنه لتحقيق سيادة القانون. ويتطلب ذلك تشريعات واضحة، وصياغة دقيقة، واجتهادًا قضائيًا منضبطًا، في إطار مؤسسي يوازن بين السلطة والحقوق. ومن دون هذه العناصر، يفقد القانون قدرته على التوجيه والاستقرار، ويتحول إلى مصدر لعدم اليقين بدلًا من أن يكون أداة لتحقيق العدالة.
