أمل بنت سيف الحميدية **
لم يعد الاحتراق الوظيفي حالة فردية عابرة، بل ظاهرة تتنامى في بيئات العمل الحديثة وتنعكس على الصحة النفسية وجودة الأداء واستقرار المؤسسات. وبحسب منظمة الصحة العالمية (2019)، ومع تسارع الإيقاع المهني وتداخل متطلبات العمل مع الحياة الشخصية، باتت الحاجة مُلحّة لفهم الاحتراق الوظيفي بوصفه إشارة إنذار مبكرة تتطلب وقاية مؤسسية وتدخلاً واعيًا، لا مجرد نصائح شخصية.
ويُعرَّف الاحتراق الوظيفي وفق تصنيف منظمة الصحة العالمية (ICD-11) بأنه "متلازمة ناتجة عن ضغط مزمن في مكان العمل لم يُدر بنجاح"، وتتميز بثلاثة أبعاد مترابطة: الاستنزاف/الإنهاك، وتزايد التباعد الذهني أو السلبية تجاه العمل، وتراجع الكفاءة المهنية. كما تؤكد المنظمة أنَّه ظاهرة مهنية مرتبطة بسياق العمل تحديدًا وليست تشخيصًا طبيًا بذاتها.
وبحسب منظمة العمل الدولية (2016)، تتداخل أسباب الاحتراق الوظيفي عادةً بين عوامل تنظيمية وأخرى نفسية-اجتماعية. ومن أبرز العوامل التنظيمية ارتفاع عبء العمل مع محدودية الموارد، وغموض الأدوار والمسؤوليات، وضعف العدالة في التقييم والترقيات، وقلة مشاركة الموظفين في صنع القرار. وتُعد هذه العوامل جزءًا مما يُعرف بـ "المخاطر النفسية والاجتماعية في بيئة العمل"، وهي مخاطر ناتجة عن تصميم العمل وتنظيمه وإدارته، وترتبط بشكل مباشر بارتفاع مستويات التوتر المهني والإجهاد المزمن، وما قد يترتب عليه من احتراق وظيفي. كما تزداد احتمالات الاحتراق عندما يقترن ضغط العمل بضعف الدعم الاجتماعي داخل الفريق، أو غياب المرونة التنظيمية، أو شعور الموظف بتهديد مستمر لاستقراره وأمانه الوظيفي.
كما أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن أعراض الاحتراق الوظيفي تظهر على هيئة إرهاق جسدي وعاطفي مستمر، تبلّد أو سلبية تجاه العمل، انخفاض الدافعية، وتراجع الشعور بالإنجاز. وقد تترافق مع اضطرابات نوم، تشتت، سرعة انفعال، أو ميل للتجنّب والتسويف. وفي سياق الصحة النفسية في العمل، تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن المخاطر قد ترتبط بجدول العمل، وخصائص بيئة العمل، وفرص التطور المهني، وهي عوامل تتقاطع مباشرة مع مسار الاحتراق.
وبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(2015)، فإنّ آثار الاحتراق الوظيفي لا تقف عند الفرد؛ إذ تمتد إلى المؤسسة عبر تدني الإنتاجية، وارتفاع معدلات الغياب والدوران الوظيفي، وتراجع جودة الخدمات. وتؤكد تقارير المنظمة أن مشكلات الصحة النفسية في بيئة العمل ترتبط بخسائر اقتصادية كبيرة ناتجة عن انخفاض الإنتاجية، وتزايد الغياب، وتراجع الأداء أثناء العمل (الحضور الشكلي)، ما يجعل الاستثمار في الوقاية من الاحتراق الوظيفي ضرورة اقتصادية لا مجرد رفاهية تنظيمية.
وإشارة إلى دراسات محكّمة منشورة في (2014؛ 2017)، يُظهر الواقع العُماني وجود مستويات متفاوتة من الاحتراق الوظيفي لدى العاملين في القطاع الصحي. فقد وثّقت دراسة منشورة في عام (2014) مستويات ملحوظة من الاحتراق بين أطباء الرعاية الأولية في محافظة مسقط، مع ارتباطها بعوامل تنظيمية مثل طول ساعات العمل وكثافة الأعباء المهنية. كما تناولت دراسات أخرى منشورة عام(2017) احتراق الأطباء المقيمين ضمن برامج التدريب الطبي في عُمان، ما يعكس حساسية هذه المرحلة المهنية وارتفاع الضغوط المصاحبة لها. مؤكدةً أن العوامل المؤسسية والتنظيمية تلعب دورًا محوريًا في تشكّل هذه الظاهرة.
ومن زاوية "الاحتراق وبيئة العمل"، يتضح أن بناء بيئة عادلة وآمنة تنظيميًا يخفف من تحول الضغط الطبيعي إلى إنهاك مزمن. وفي هذا الإطار، تتقاطع الجهود الوطنية مع الوقاية من الاحتراق عبر تعزيز الاستقرار والعدالة؛ إذ أقرّت سلطنة عُمان قانون العمل بالمرسوم السلطاني رقم 53/2023 لتنظيم علاقة العمل وتحديثها، بما يدعم وضوح الحقوق والواجبات ويحد من الاضطراب التنظيمي. كما عززت منظومة الحماية الاجتماعية جوانب الأمان، ومن ذلك "تأمين الأمان الوظيفي" الذي يوفّر دخلاً مؤقتًا للمستفيدين عند فقد العمل لأسباب خارجة عن السيطرة، ما يخفف أحد أهم محفزات القلق المهني.
وتبدأ الوقاية من الاحتراق الوظيفي بإجراءات مؤسسية واضحة: توزيع عادل للأعباء وتحديد أدوار ومسارات ترقٍ شفافة، تدريب القادة على الدعم النفسي والإدارة العادلة، وتفعيل قنوات الشكوى دون خوف. وعلى مستوى الفرد، تساعد مهارات إدارة الوقت، أخذ فواصل قصيرة منتظمة، وحدود صحية بين العمل والحياة. أما العلاج والتعامل عند ظهور الأعراض فيشمل الاعتراف بالمشكلة مبكرًا، مناقشة تعديل العبء أو ساعات العمل مع الإدارة، الاستفادة من خدمات الإرشاد النفسي إن توفرت، وبناء شبكة دعم مهني وأسري، مع استبعاد الأسباب الصحية المصاحبة عند الحاجة.
وخلاصة القول إن الاحتراق الوظيفي ليس قدَرًا ملازمًا للوظيفة، بل نتيجة قابلة للخفض عندما تُدار ضغوط العمل بإنصاف وتُدعَّم بيئة العمل بالأمان والتنظيم والدعم. ومع توجهات سلطنة عُمان في تحديث التشريعات وتعزيز منظومة الحماية الاجتماعية، تصبح الفرصة أكبر لترسيخ ثقافة عمل صحية تُحقق كفاءة أعلى ورفاهًا مهنيًا أوسع، وتترجم عمليًا أهداف التنمية وبناء الإنسان.
** كاتبة وباحثة
