قطاع يسمع ليفهم

 

 

 

ريم الحامدية

reem@alroya.info

 

 

لم تُراهن عُمان يومًا على الضجيج؛ بل راهنَت على العمل، وحين بدأ السؤال الكبير يُطرح: ماذا بعد النفط؟ لم تكن الإجابة خطابًا، كانت مصنعًا يُفتح، ومنتجًا يُجرَّب، وأيادي تتعلم كيف تحول الفكرة إلى قيمة.

هكذا دخل القطاع الصناعي المشهد، لا كخيار إضافي؛ بل كضرورة وطنية، وكخط الدفاع الأول عن اقتصاد يُريد أن يعيش أطول من مورد واحد، وأوسع من لحظة رخاء. الصناعة هنا ليست رفاهية تنموية، ولا زينة تُعلق على تقارير الإنجاز، هي اختبار يومي لقدرة سلطنة عُمان على التحول، وقدرة الإنسان العُماني على أن يكون جزءًا من هذا التحول، لا متفرجًا عليه.

في المصانع العُمانية، لا تُصهر المعادن فقط؛ بل تُصهر الأسئلة الثقيلة كيف نخلق قيمة حقيقية؟ كيف نُنافس دون أن نفقد هويتنا؟ وكيف نبني اقتصادًا يُشبهنا، لا يُستنسخ من غيرنا؟

من المناطق الصناعية الواعدة، إلى خطوط الإنتاج التي لا تعرف التوقف، يتشكل مشهد مختلف عن الصورة التقليدية للاقتصاد الريعي، مشهد يتقدم بهدوءٍ محسوب، لكنه يتقدّم بثبات، مدفوعًا بإيمانٍ متزايد بأن التنويع ليس خيارًا مؤجلًا، بل مسارًا لا عودة عنه.

وما بين الصوامع والمصانع، تتدفق الأفكار مع المواد الخام، وتتحول المخططات إلى منتجات، والأيدي العُمانية تصنع ما يمكن أن يكون حلقة في سلسلة عالمية. كل آلة، وكل قطرة عرق على جبين العامل، وكل منتج يحمل معه رسالة بأن الصناعة ليست مجرد إنتاج؛ بل ثقافة عمل، وفكر، وطموح.

إن ما نشهده اليوم من نمو في الناتج الصناعي ليس رقمًا عابرًا في بيانٍ اقتصادي، بل علامة نضجٍ لمسارٍ طويل، ودليل على أن الرهان على الصناعة بدأ يؤتي ثماره.

أن تتوسع القاعدة الإنتاجية، وأن تُفتتح مصانع جديدة، وأن تتدفق استثمارات بمئات الملايين، فذلك يعني أن القطاع الصناعي لم يعد وعدًا يُتداول، بل واقعًا يتشكّل على الأرض بقوة.

هذه ليست طفرة عابرة؛ بل نتيجة مسار اختار أن يكون أقل صخبًا وأكثر عمقًا. مسارٌ بنى تشريعات، وطوَّر بيئات عمل، وهيّأ أرضًا قادرة على استقبال الصناعة لا كضيفٍ مؤقت؛ بل كجزء أصيل من الاقتصاد الوطني.

المشهد الصناعي اليوم يُحاكي الحلم القديم لعُمان اقتصاد متنوع، ومستقل، ومستدام، اقتصاد يُصنع فيه الإنسان، ويصنع معه وطنه. ومن هنا، يصبح الحديث عن الصناعة أكثر من مجرد أرقام أو مؤشرات؛ بل حديث عن صبر، وتجربة ناجحة تبني ثقة لا تُقاس.

التحديات، بطبيعة الصناعة، حاضرة في كل زاوية كلفة الإنتاج، تقلبات الأسواق، المنافسة الإقليمية، ومتطلبات التحول نحو الاقتصاد الأخضر، لكن كل تحدٍ هنا لا يُنظر إليه كجدار يمنع؛ بل كمادة خام أخرى، يمكن صقلها وتحويلها، واستثمارها في صرح جديد. هكذا تتعلم الصناعة العُمانية أن تصنع الفرص من التحديات، والثبات من الصعاب، والنجاح من الصبر.

وفي قلب هذه المصانع، يقف الإنسان العُماني: عاملًا، ومهندسًا، وفنيًا، ومديرًا، كل واحد منهم يحمل جزءًا من الوطن في يديه.

الخطوات، الأصوات، الحركات، وحتى الصمت بين الآلات، تتحدث عن مستقبل يتشكل الآن، وليس غدًا.

كل إنتاج يُسجل، كل منتج يُعبأ، وكل فكرة تُنقل… هي شهادة على أن الوطن يبني نفسه بيديه، ولا ينتظر من أحد أن يصنع له النجاح.

القطاع الصناعي اليوم يقف عند نقطة حاسمة بين الطموح والواقع، بين ما نريده سريعًا وما يمكن تحقيقه بثبات. وهنا، لا يكفي فتح المصانع؛ بل يجب أن تُفتح معها أبواب الابتكار، المعرفة، والبحث العلمي، والتوظيف حتى لا تبقى الصناعة مجرد إنتاج، بل تتحول إلى منظومة متكاملة تصنع الاستدامة، وتخلق أثرًا ملموسًا على المجتمع والاقتصاد.

وفي هذه اللحظة، يصل القطاع الصناعي إلى ذروته المعنوية، حين يصبح النمو ليس مجرد أرقام؛ بل شعورًا حيًا بالفخر، إن الصناعة، بهذا المعنى، لا تتوقف عند لحظة إنجاز، ولا تبحث عن التصفيق.

إنه قطاعٌ يصنع الأثر، يبني الاقتصاد، ويشكّل حياة الناس، ويخلق الفرص، ويعيد صياغة العلاقة بين الوطن والمواطن، بين الموارد والطموح، بين الحلم والواقع.

وفي أروقة المصانع، تُكتب ملامح المرحلة المُقبلة، وتُبنى عُمان التي لا تراهن على الصخب، بل تراهن على العمل، على الصبر، وعلى القدرة العُمانية على تحويل كل تحدٍ إلى فرصة، وكل فكرة إلى قيمة، وكل مصنع إلى رمز للثقة والاعتماد على الذات.

الأكثر قراءة

z