‏ظفار.. حضنُ الندرة ومهدُ الأسرار الخضراء

 

 

 

 

أحمد بن مسلم سوحلي جعبوب

 

فقط وحصريا من ظفار، في هذه الأرض التي تصنع الفصول على طريقتها، وتُقنع الغيم بأن يهبط إليها طائعاً كل خريف، تنبض تربةٌ لا تُشبه سواها… تربةٌ رطّبها الضباب أكثر مما لامسها المطر، فصارت مهداً لكائنات نباتية لا تُفصح عن أسمائها إلا حين تأذن لها ظفار بالظهور. هنا، في أرض اللبان التي أربكت خرائط التاريخ ودفاتر العلماء، تنحني الطبيعة لتخفي أسرارها في أكمام الجبال، كأنها تريد لمن يكتشفها أن يكون جديراً بالدهشة.

ولأن المناخ هنا شبه استوائي، يتأرجح بين نعومة المحيط وحنان السحب الموسمية، فقد أصبحت ظفار آخر ملاذٍ لنباتات نادرة أبت أن تستقر في أي مكان سوى هذه التربة. إن امتزاج الرطوبة الساحلية مع النسائم الباردة القادمة من القمم الشاهقة يخلق «جيباً بيئياً» لا يتكرر، بيئة دقيقة التكوين لا تصمد فيها إلا الأنواع التي تعرف كيف تتنفس الضباب وتحتمل الضوء الخافت تحت ظلال السحب الكثيفة.

في هذا المسرح الأخضر تولد زهرة نبات Trichodesma cinereum… زهرة خجولة، دقيقة الملامح، تكاد تكون همساً نباتياً. تظهر بخطى محسوبة، كأنها تختبر سلامة العالم قبل أن تُزهر. أوراقها مكسوّة بزغبٍ ناعم يعمل كدرعٍ طبيعي يخفف فقدان الماء، وتيجانها الملونة ليست للزينة فقط، بل إشارات ضوئية تجذب الفراشات. هي ليست مجرد زهرة؛ إنها وثيقة علمية حيّة تُخبرك كم يمكن للنبات أن يتكيّف حين تمنحه الطبيعة مساحة فريدة مثل ظفار جنوب سلطنة عمان.

وهنا يتجلى سحر ظفار.. هذه الأرض لا تُنبت نباتات فحسب؛ بل تُنبت احتمالات تُعيد تشكيل فضول الباحث وتذكّره أن المناطق الجافة وشبه الجافه موسميا قد تكون واسعة من حيث المعنى العلمي. بين صخورها ينمو ما لم يُسجَّل بعد، وما لم يُقرأ في معاجم النبات العالمية، وما يظل مختبئاً حتى يأتي من يملك عيناً تصغي.

وربما لهذا السبب تحديداً، تبقى ظفار آخر مفاتيح الدهشة في جنوب الجزيرة العربية…

أرض تحتضن الندرة، وتمنح السرّ حياة، وتقول للعلم إن الطبيعة لم تكشف كل أوراقها بعد.

وقد أطلق السكان المحليون على هذا النبات "خشخيش فجري".

صور مع المقال (3).jpg
صور مع المقال (1).jpg
صور مع المقال (2).jpg
 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z