خالد بن سالم الغساني
ما يحدث من تهديدات لجمهورية فنزويلا على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يُعيد إلى الأذهان عقودًا من التدخلات الأمريكية المباشرة وغير المباشرة في شؤون الدول الأخرى؛ إذ تعود إدارة ترامب لتلوّح باستخدام القوة ضد فنزويلا، بحُجة مكافحة المخدرات وحماية الأمن القومي.
ورغم أنَّ هذه الروايات قد تبدو مُقنعة على سطحيتها لمروّجيها أولًا، وللبعض الآخر ممن تنطلي عليهم مثل هذه السرديات والتبريرات للأعمال الدنيئة التي تقوم بها الدول الاستعمارية عادةً، إلّا أن القراءة المتعمِّقة تكشف عن تناقضات جوهرية تُشير إلى أن ما يجري ليس سوى امتداد لسياسة استعمارية قديمة ترفض أن ترى دولة تقف ضد النفوذ الأمريكي، خصوصًا إذا كانت تمتلك عناصر قوة مثل الموقع الاستراتيجي والموارد الطبيعية الغنية.
ترامب الذي وعد ناخبيه مرارًا بأنه سيُنهي حروب أمريكا الخارجية ويُركِّز على أمريكا أولًا، يبدو اليوم وكأنه يعيد البوصلة نحو منطق الحرب الاستباقية، لكن بشعارٍ وتبريرٍ جديدين. فبدلًا من نشر الديمقراطية، تأتي هذه المرة ذريعة مكافحة تهريب المخدرات، التي تُستخدم لتبرير التحركات العسكرية. فمنذ أشهر أعلنت الإدارة الأمريكية عن تفويض وكالة المخابرات المركزية "سي آي إيه" للقيام بعمليات سرية داخل الأراضي الفنزويلية، فيما تحركت قطع بحرية أمريكية باتجاه البحر الكاريبي، وكأنَّ المنطقة باتت على أعتاب مواجهة قد لا تكون بعيدة.
ورغم أن واشنطن تصوّر الأمر كحملة تطهير مما يسمى بـ"الناركو-إرهاب"؛ أي "عنف عصابات تهريب المخدرات" (ناركوتيكس تعني المخدرات)، القادم من الجنوب، إلّا أن الوقائع تكشف أن معظم الضربات استهدفت قوارب صغيرة وأن الضجّة الإعلامية تفوق حجم التهديد الفعلي؛ الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كان التهديد الأكبر، بحسب ما تُروِّج له الإدارة، هو شحنات مخدرات أم نظام سياسي يقول لا للهيمنة الأمريكية.
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، الذي ورث نظام هوغو تشافيز المعروف بمناهضته للسياسات الاستعمارية الأمريكية، يُشكِّل حجر عثرة أمام طموحات واشنطن في إعادة رسم خريطة النفوذ في القارة اللاتينية. فنزويلا تملك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، وموقعًا جنوبيًا مطلًا على البحر الكاريبي، وقاعدة محتملة لأي صراع جيواستراتيجي في نصف الكرة الغربي.
من هنا، تتضح المفارقة، فبينما تزعم واشنطن أنها تحارب تهريب المخدرات، تتجاهل أنها لطالما وقفت صامتة أو متواطئة أمام شبكات تهريب في مناطق أخرى عندما اقتضت مصالحها ذلك. وبينما تستنكر هروب السجناء من فنزويلا، تتجاهل أنها نفسها صاغت سياسات ضربت استقرار عشرات الدول بذريعة مشابهة، ثم تركتها تنزف في فوضاها. والتركيز على المخدرات ليس إلّا غطاءً لأهداف استعمارية أعمق، تتمثل في محاولة احتواء نظام معادٍ، وتطويع دولة ترفض الخضوع، وإرسال رسائل ردع إلى كل من يفكر في الخروج عن بيت الطاعة وجادة النفوذ الأمريكي.
ترامب الذي يقدم نفسه كقائد قوي لا يتردد في الدفاع عن مصالح بلاده، بهذا المنطق والسلوك العدواني، إنما هو في الواقع يعيد إنتاج ذات المنطق الاستعماري الذي لا يَطيق وجود حكومة مستقلة في منطقة يُفترض أنها "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة. وإن كان يستند إلى لغة القانون والمساءلة وانتهاك السيادة، فإنه يتجاهل عمدًا حقيقة أن تفويض وكالة تجسسية للقيام بعمليات سرية داخل دولة مستقلة دون موافقتها، هو انتهاك سافر للمبادئ ذاتها التي يزعم حمايتها.
قد لا تكون الولايات المتحدة قد اتخذت قرارًا نهائيًا بغزو فنزويلا، لكن حشد السفن وإطلاق التهديدات والترويج الإعلامي يستحضر ذاكرة الشعوب التي خبرت أدوات النفوذ الأمريكي؛ حيث تبدأ الأمور بضربات محدودة، ثم تتحول إلى حملة مُعلنة، وما بينهما تظل الحقيقة مغلّفة بذريعة الأمن والمصالح القومية. وفي كل مرة تبقى الشعوب هي من يدفع الثمن عندما تُفرض عليها إرادة الخارج بقوة السلاح أو حصار العقوبات.
ونظرة بسيطة لتاريخ العلاقات الأمريكية-اللاتينية، تكشف أن ما يجري اليوم لم يكن سوى فصل جديد في ذات الكتاب الاستعماري الأمريكي القديم، الذي يحمل عنوان: «لن نسمح بوجود دولة تقول لا». فحين تكون على حدودك دولة تملك النفط وترفع شعارات مضادة لهيمنتك، فإن ذريعتك لا تحتاج سوى لمسات تكتيكية من دوائر وزارة الحرب "البنتاجون" ووكالة "سي آي إيه"، مع قليل من خطاب الأمن وبعض الاتهامات الجنائية، ثم إخراج مسرحي يُبرِّر كل شيء. وما دامت واشنطن ترى نفسها فوق المساءلة الدولية، لا يزال من الممكن أن يتكرر السيناريو، بمشهد جديد وكلمات مختلفة، لكن بفلسفة استعمارية واحدة.
فهل سيتراجع ترامب عن وعوده الانتخابية، فيؤكد مرة أخرى أن لا عهد يدوم حين تكون العقلية مشبعة بأفكار الهيمنة الاستعمارية حتى الجذور؟
