شيان.. مهد الحضارة الصينية

 

 

ناصر بن حمد العبري

بداية لا بُد من توجيه التحية والشكر إلى سعادة السفير الصيني المعتمد لدى سلطنة عُمان ومدير مكتبه وجميع طاقم السفارة الصينية في مسقط على العمل، الذي يسعون إليه للارتقاء بالعلاقات الثقافية والإعلامية، من خلال برمجة زيارات الوفود الاقتصادية والتجارية والثقافية إلى الصين؛ وهي تتويج للعلاقات العُمانية الصينية التي تعد أقدمها على المستوى العربي، والتي تذكرنا بالتاجر العُماني رسول السلام والمحبة عبدالله أبا القاسم الذي لقبه الجنرال سون بـ"جنرال الأخلاق الطيبة".

وقد زرت لأول مرة مدينة شيان، عاصمة الصين القديمة، نقطة الانطلاق الشرقية لطريق الحرير القديم، والتي تعتبر متحفًا مفتوحًا للتاريخ الصيني، وفيها يُصاغ الحاضر كونها من أهم المدن تكنولوجياً حيث يوجد بها أكثر من مائة جامعة، ومئات المعاهد المهنية والتقنية الكثير منها مختص بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة الحديثة وخاصة ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.

كما يوجد فيها، مجمع رقمي بارز يضم قاعة عرض تفاعلية، وصالات تجربة لعرض تكنولوجيا الذكاء الاصطناع منها ثلاثية الأبعاد بدون نظارات مما يجعله مركزًا رقميًا وثقافيًا يجمع بين الابتكار التقني والتطور الرقمي. وكذلك ثاني أكبر فرع ومجمع لشركة BYD عملاق صناعة السيارات وبطاريات الليثيوم والطاقة المتجددة التي بلغ إنتاجها للسيارات عام 2024 أكثر من 14 مليون سيارة.

ومن أبرز معالم مدينة شيان متحف جيش التيراكوتا، الذي يُعد أحد أعظم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين. يضم هذا المتحف آلاف التماثيل المصنوعة من الطين تمثل الجنود والخيول والعربات الحربية والتي صممت بعناية فائقة لتقليد الجيش الحقيقي يدفن هؤلاء الجنود لحراسة قبر الإمبراطور تشين شيهوانغ أول إمبراطور موحد للصين في عام 221 قبل الميلاد، ويعكس هذا الاكتشاف العمق الفني والتقني للحضارة الصينية القديمة، كما يقدم للزائرين لمحة عن التنظيم العسكري والهندسة المعمارية والتقاليد الجنائزية في تلك الحقبة التاريخي ومتحف شيان العريق الذي افتتح في 2007 وبلغت تكلفة إنشائه نحو 70 مليون دولار بمساحة إجمالية تبلغ 160 ألف متر مربع، ويتألف من المبنى الرئيسي للمعارض ومعبد جيانفو وبرج الحية البرية الصغيرة من عصر تانغ، إضافة إلى الحدائق المحيطة، ويعكس تصميمه مفهوم سماء دائرية وأرض مربعة.

ويضم المتحف قرابة 130000 قطعة أثرية من البرونز والذهب والفضة والسيراميك والكتب القديمة، منها أكثر من 14400 قطعة مهمة، إضافة إلى نحو 10000 لوحة وخط، وينظم معارض دائمة عن تاريخ شيان وسلالاتها ومعارض خاصة ومؤقتة، كما يحتوي طابقًا تحت الأرض لعرض مكتشفات الحفريات وأختام قديمة، مع اعتماد تقنيات رقمية لتعزيز التجربة وفهم التراث.

إضافةً إلى مسجد شيان الكبير، أحد أقدم المساجد في الصين، الذي شيد لأول مرة عام 742م خلال عهد أسرة تانغ وأعيد بناؤه لاحقاً خلال أسرة مينغ. ويقع المسجد داخل أسوار المدينة القديمة على مساحة تقارب 12- 15 ألف متر مربع، ويتميز بتصميم يجمع بين الطابع المعماري الإسلامي والصيني التقليدي، من خلال أفنيته الأربعة وغرفه الـ72 وقاعة الصلاة الرئيسية المزخرفة بالنقوش الخشبية للقرآن بالخط العربي والترجمة الصينية.

وتحيط به حدائق مزروعة بأشجار الصنوبر والكاكا، ليشكل رمزا للتلاقي الثقافي بين الإسلام والتراث الصيني، ويجذب سنويًا عددًا كبيرًا من الزوار من المُسلمين وغيرهم.

بعد ذلك، انتقلنا عبر الطائرة جنوبًا إلى مدينة جوانزو عاصمة مقاطعة "غوانغدونغ" هذه المدينة المذهلة، التي شهدت تطورًا هائلاً خلال العقود الأربعة الماضية، وأصبحت مركزا تجاريًا عالميًا، وفيها زرنا مركز التطوير الحضري للمدينة؛ حيث قدموا لنا شرحًا بالصوت والصورة عن مراحل تطوير هذه المدينة، التي افتتح أول فندق خمسة نجوم فيها عام 1985، وأصبحت مساحتها اليوم 7234 كيلو مترًا مربعًا، وفيها مئات الأبراج والفنادق والمولات ومقار كبريات الشركات العالمية، والتي بلغ ناتجها القومي لعام 2024 نحو 30 تريليون يوان، ما يزيد عن 4.2 تريليون دولار.

وحين تتنقل جوا بين مدن الصين تظن أنك تحلق فوق مدينة واحدة فهذا الكوكب مرتبط ومتصل ببعضه، قراها كأنها لؤلؤ منثور أو كعقد اللؤلؤ، ومدنها تمتد كخيوط مضيئة لا تنقطع، كل منها يفتح ذراعيه للآخر، حتى تكاد لا تفرّق أين تبدأ مدينة وأين تنتهي الأخرى.

من أعلى، يبدو لك المشهد كنسيج واحد حي، تتداخل فيه الطرق والجسور والأنهار، كأنها شرايين في جسد عملاق نابض بالحياة، يحدثك بأن هذا الاتساع ليس تكرارًا، بل تنوّع مذهل داخل وحدة مدهشة.

من الشمال البارد إلى الجنوب الدافئ، ومن الأنهار المتدفقة إلى القمم التي تخترق الغيوم، ترى الصين لوحة طبيعية استثنائية تجمع بين الروعة والهدوء، والعراقة والتنوع. إنها بلد لا تكتفي بأن تُدهشك بمناظرها؛ بل تجعلك تشعر بأنَّ الطبيعة هناك تتنفس تاريخاً وروحًا وعمقاً لا يُنسى.

لقد كانت رحلة جميلة ومُمتعة، تعرفنا خلالها على عدد محدود من معالم هذا البلد العريق الغني بموروثه وجمال طبيعته الساحرة وثقافته الواسعة، ومن أجمل مكاسب هذه الزيارة، التعرف واكتشاف عظمة الإنجازات الكبيرة في مقاطعات الصين وكرم وأخلاق الشعب الذي همه احترام وتقدير الشعوب العربية والإسلامية.

الأكثر قراءة

z