من يحرس المستقبل؟

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في عالمٍ تتسارع فيه التقنيات بوتيرة تكاد تخطف الأنفاس، لم يعد الذكاء الاصطناعي ترفًا معرفيًا أو موجةً عابرة، بل تحوّل إلى ركنٍ جوهري في منظومة الأمن الوطني بمعناه الواسع. فالأمن اليوم لا يُقاس بحدودٍ تُراقَب فقط، بل بقدرة الدول على إدارة بياناتها، وقراءة مخاطرها، وصنع قرارات دقيقة تستند إلى الأدلة لا إلى الحدس. وفي ظل هذا الواقع المتحوّل، يبرز سؤالٌ يزداد إلحاحًا: كيف نضمن أن يكون الذكاء الاصطناعي مصدر قوة… لا بوابة لمخاطر غير محسوبة؟

لقد أثبتت التجارب أن هذه التقنيات قادرة على فتح آفاق نوعية غير مسبوقة، إذ تمنح الحكومات قدرة أعلى على رصد التهديدات قبل وقوعها، وتحليل الأنماط الشاذة، والتعامل مع ملايين البيانات في لحظات. وبفضلها أصبحت بعض الدول أكثر استعدادًا لاكتشاف الهجمات السيبرانية مبكرًا، وتحديد مصادر الخطر، واتخاذ قرارات دقيقة تستند إلى العلم لا إلى التخمين. ولم يأتِ هذا التحول من فراغ، بل من إدراكٍ متزايد بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد برامج وأدوات، بل منظومة تفكير جديدة توسّع أفق صانع القرار وتمنحه رؤية أعمق لمشهدٍ يتغير كل لحظة.

غير أنّ لهذه القوة وجهًا آخر لا يقل تعقيدًا؛ فالتحديات التنظيمية والتشريعية والأخلاقية باتت تُلزم الدول بإعادة النظر في طريقة إدارتها لهذه التقنيات. فالأنظمة الذكية لا يمكن أن تعمل بفاعلية من دون إطار قانوني واضح يضبط حدود الاستخدام، ويحمي الخصوصية، ويمنع التحيّز الخوارزمي، ويُحدد المسؤوليات عند وقوع المخاطر. وفي غياب هذا الإطار، يمكن أن تتحوّل التقنية من فرصة واعدة إلى ثغرةٍ تهدد الثقة والمؤسسات معًا.

وتكشف التجارب الدولية أن الدول التي نجحت في توظيف الذكاء الاصطناعي بدأت من "الحوكمة" قبل الشبكات، ومن "السياسة" قبل البرمجيات. فقد وضعت معايير واضحة لما يجوز وما لا يجوز، وحددت ملكية البيانات، وأنشأت آليات للمساءلة، ثم استثمرت في تأهيل كوادر وطنية قادرة على إدارة وتشغيل الأنظمة الذكية. فالتقنية، مهما بلغت قوتها، لا تصنع أثرًا من دون عقل بشري يقودها بوعي ومسؤولية.

أما في سلطنة عُمان، فقد قطعت الدولة شوطًا مهمًا في بناء البنية الأساسية الرقمية وتطويرها، غير أن التحدي الأبرز يظل متمثلًا في نضج البيانات وتكاملها بين الجهات. فالبيانات هي الوقود الحقيقي للذكاء الاصطناعي، وإذا كانت موزعة بين أنظمة متعددة، أو غير محدثة، أو تفتقر إلى الترابط، فإن قدرة التقنية على خلق قيمة حقيقية ستظل محدودة. ولهذا تبدو الحاجة ملحّة اليوم لتعزيز الحوكمة الرقمية، وتوحيد المعايير، ورفع جودة البيانات قبل التوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. وتمثّل هذه الجهود جزءًا من التوجهات الوطنية الكبرى التي أكدت عليها «رؤية عُمان 2040»، ولا سيما في محاور التحول الرقمي، والابتكار، وبناء اقتصاد قائم على المعرفة.

وانطلاقًا من ذلك، يبرز اليوم خيار استراتيجي لا يمكن تأجيله: إنشاء منظومة وطنية موحدة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، تكون مظلة تجمع الجهات الحكومية تحت إطار واحد، وتربط السياسات بالأنظمة، والبيانات بالقرارات، وتضمن الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات. فوجود مثل هذه المنظومة لن يختصر الوقت والجهد فحسب، بل سيعزز الجاهزية المؤسسية، ويحوّل الذكاء الاصطناعي من مبادرات متناثرة إلى مشروع وطني متكامل يخدم الأمن والتنمية معًا.

فالذكاء الاصطناعي ليس قادمًا… بل حاضرٌ يعيش بيننا. والسؤال الحقيقي لم يعد: هل سنستخدمه؟ بل: كيف سنستخدمه؟ وفي أي سياق وطني يمكن أن نضمن أن يكون درعًا يحمينا، لا ثغرةً تتسلل منها المخاطر؟

وحين تتقاطع التقنية مع الأمن الوطني، تصبح المسافة بين القوة والهشاشة رقيقة؛ لا يحسمها تطور الأنظمة وحده، بل نضج السياسات، ووعي المؤسسات، وثقة المجتمع.

الأكثر قراءة

z