الحوكمة الرقمية

 

 

 

سُلطان بن خلفان اليحيائي

 

تُشير الإحصاءات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنّ سلطنة عُمان تضم اليوم أكثر من 2.3 مليون وافد حتى منتصف 2025، تُشكل العمالة الهندية منهم ما يزيد على517 ألف عامل، بينما يمثل الوافدون عمومًا نحو 43.3% من جملة السكان في سلطنة عُمان، وهي نسبة مُرتفعة بالمعايير الإقليمية والديموغرافية.

وتكشف هذه الأرقام، الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حتى أكتوبر 2025م، عن واقعٍ يفرض نفسه على سوق العمل: تمدّدٌ عماليّ واقتصاديّ مُتزايد يتطلب إدارة دقيقة لا تقطع العلاقات، بل تنظّمها وتمنع تحوّل الحاجة إلى اعتماد، والوجود إلى نفوذ، والاستعانة إلى استبدال.

ورغم أنَّ العلاقات العُمانية الهندية تاريخية وراسخة، إلا أنّ التحوّل الأخير في حجم الكتلة العمالية الهندية يفتح سؤالًا جوهريًا حول التوازن: كيف يمكن الحفاظ على المصالح المشتركة دون أن يتحوّل التركز البشري والاقتصادي إلى اختلالٍ في سوق العمل في سلطنة عُمان؟ فالحضور الهندي في ذاته ليس خطرًا، لكن الخطر يكمن عندما يُصبح هذا الحضور بلا رقابة، وعندما تُترك القطاعات الحساسة لوزن ديموغرافي يزداد تدريجيًا دون أدوات حوكمة تضبط الإيقاع وتحفظ الهوية المهنية للمواطن.

إنّ التجربة التاريخية تقدّم دروسًا لا يمكن تجاهلها، فالهند نفسها شهدت دخول المسلمين إليها حاملين مشروع دولة قائمًا على العلم والعدل والتنظيم، فازدهرت البلاد 8 قرون كاملة. ثم جاء الإنجليز بوجوهٍ ودودة ودفاتر حساب، وما بدأ تجارةً انتهى حكمًا. واليوم، يتكرر النمط ذاته ولكن اقتصاديًا لا سياسيًا: تمدّد هادئ، حضور في المهن الحساسة، واعتماد متزايد على كتلة بشرية تتضاعف مع الزمن. وما كان يفترض أن يكون بوابة دخول وخروج صار بابًا فُتح للداخل وأُغلق من الخلف. واللوم هنا ليس على الوافد؛ بل على السياسات التي وضعت المواطن في آخر الصف بدل أن يكون في أوله.

إنّ التغلغل الهادئ يبدأ من الحاجة وينتهي عند الاعتماد، وهذا ما يشهده العُماني في قطاعات متعددة. فالثغرة ليست في وجود اليد العاملة الأجنبية؛ بل في غياب استراتيجية واضحة تبني الخبرة الوطنية وتضمن حضور المواطن في سوق العمل حضورًا حقيقيًا لا شكليًا. فالثقافة التي كانت تقول: الوافد جاهز، والعُماني يحتاج تدريبًا، لم يعد لها مكان في عصر المؤشرات الرقمية، إذ تؤكد الدراسات العالمية أن الدول التي تهمل بناء خبرتها الوطنية تفقد قدرتها على الصمود خلال جيلين فقط. فالخبرة لا تُستورد… الخبرة تُزرع.

هنا تأتي الحوكمة الرقمية باعتبارها ترس السيادة وضامن التوازن. فالسيادة اليوم ليست سيادة جغرافيا فقط، بل سيادة بيانات وقرارات دقيقة. والرقمنة تتيح رصدًا لحظيًا للتجمعات العمالية، ومتابعة نسب التركز في القطاعات الحساسة، وكشف أي نفوذ قبل أن يتحوّل خللًا، وإدارة سوق العمل بما يحفظ مصالح الوطن أولًا دون إخلال بمبدأ الاستفادة من الخبرات الأجنبية. غير أن الرقمنة وحدها ليست عصًا سحرية؛ إذ لن تنجح دون تشريعات صارمة ومساءلة واضحة وبيانات موحّدة وبرامج تدريب ونقل خبرة ملزمة تربط وجود الوافد بتأهيل المواطن.

وتبرز 5 تحديات رئيسة تحتاج معالجة صريحة: بيانات تحتاج تكاملًا أوسع وثغرات تشريعية تربك ميزان السوق ومصالح اقتصادية تقاوم التوطين وغياب برامج نقل خبرة مُلزِمة وفجوة مهارية وطنية لا تُسدّ إلا بخطة جادة. وهذه ليست عراقيل عابرة، بل مفاصل تُحدّد مستقبل السيادة الاقتصادية.

ولذلك، يمكن تلخيص الحل في ثلاثية واضحة: توازن- إحلال- نقل خبرة، وهي ثلاثية لا تستهدف تقليص الوافدين بقدر ما تستهدف إعادة صياغة العلاقة معهم؛ فالتوازن يُعيد ضبط المشهد الديموغرافي، والإحلال التدريجي يمنح المواطن موقعه الطبيعي ونقل الخبرة يضمن ألّا تعود الدورة إلى نقطة الصفر بعد سنوات.

التاريخ لا يرحم الغافلين، والدول لا يحميها الخارج، ومن لا يملك سوقه لن يملك قراره. والأوطان لا تُسقطها الحروب؛ بل الثغرات. والباب الذي لا يُدار اليوم بالحوكمة الرقمية قد لا يجد غدًا مزلاجًا لغلقه. ولذا، فإنَّ المستقبل يبدأ بقرار: أن تكون السيادة الاقتصادية قرارًا وطنيًا، محمولًا على بيانات دقيقة وتشريعات واضحة وإرادة لا تعرف التراخي.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z