خالد بن حمد الرواحي
في مُجتمعاتٍ كثيرة، يُنظر إلى الاعتذار كعلامة ضعف، بينما هو في حقيقته أرقى مظاهر القوة الإنسانية. فليس الشجاع من لا يخطئ؛ بل من يملك الشجاعة ليعترف بخطئه ويُصلحه قبل أن يتضخم أثره. في عالمٍ يميل إلى تبرير الأخطاء وتزيين الهفوات، يبقى الاعتذار فعلًا نادرًا، لكنه وحده القادر على إعادة التوازن بين القلوب والعقول، وبين الخطأ والضمير.
في بيئة العمل مثلًا، قد يخطئ المسؤول في تقدير موقفٍ أو إصدار قرار، لكنه يفضّل الصمت على أن يقول: «كنت مُخطِئًا»، وكأنَّ الاعتذار ينتقص من مكانته لا يرفعها. وفي العلاقات الاجتماعية، كثيرًا ما نُغلِّب تبرير الذات على شجاعة قول «عذرًا»، حتى تحوّلت المجاملة إلى غطاءٍ للأخطاء، والاسترضاء إلى بديلٍ عن المراجعة. وهكذا يتسع الفارق بين الوعي والسلوك، لأننا لم نتعلّم بعد أن الخطأ ليس عيبًا؛ بل الإصرار عليه هو العيب الحقيقي.
حين يغيب الاعتذار، لا يختفي الخطأ؛ بل يتحوّل إلى جدارٍ صامتٍ بين الناس. فالصمت لا يُصلح الخطأ؛ بل يُضفي عليه شرعيةً خفية تُبرّر استمراره. وفي المؤسسات، يفتح ذلك الباب لإضعاف الثقة وتكرار الهفوات، لأنَّ كل طرفٍ يخشى الاعتراف بموضع التقصير. ومع الوقت، يمتد هذا السلوك إلى الحياة العامة، فيُفقد الاعتذار قيمته حين نمارسه مجاملةً لا قناعة؛ فنعتذر بعباراتٍ باردةٍ لا روح فيها، بينما المطلوب أن يصدر من وعيٍ صادقٍ ورغبةٍ حقيقيةٍ في الإصلاح.
في القيادة، يزداد حضور الاعتذار حين يدرك القائد أن الاعتراف بالخطأ لا يُضعف صورته؛ بل يمنحها صدقًا واحترامًا. فالموظفون لا ينتظرون من رئيسهم الكمال؛ بل العدالة، ولا يثق الناس بالمؤسسات التي لا تُراجع قراراتها أو تُصحّح مسارها. حين يعتذر القائد، فهو لا يتنازل عن مكانته؛ بل يُرسّخها؛ لأنه يُعلّم الآخرين أن المسؤولية لا تُقاس بامتلاك القرار فقط؛ بل بالشجاعة على مراجعته.
الاعتذار في جوهره ليس ضعفًا؛ بل وعيٌ بالنفس واحترامٌ للآخر. إنه لحظة صدقٍ نادرة تكشف نضج الشخصية وقوة المسؤول حين يضع الحقيقة فوق صورته. فالمعتذر لا يخسر مكانته؛ بل يكسب احترام من حوله، لأنه يبرهن أن المنصب أو الدور لا يُغنيه عن إنسانيته. والمجتمعات التي تحتفي بالاعتذار تُصبح أكثر نضجًا وعدلًا، لأنها تدرك أن الخطأ فرصةٌ للتعلّم لا تهمةٌ تُخفى بالمجاملة.
حين يصبح الاعتذار جزءًا من ثقافة المجتمع، تتغيّر اللغة بين الناس، ويغدو الإصلاح أسهل من العتاب. فالقيم الكبرى لا تُفرض بالقوانين؛ بل تُزرع بالتربية والممارسة. والاعتذار أحد تلك القيم التي تُعيد للعلاقات دفئها، وللمؤسسات توازنها، وللوطن صفاءه الأخلاقي. إنها خطوة صغيرة في ظاهرها، لكنها تُحدث أثرًا عميقًا في بناء إنسانٍ صادقٍ مع نفسه، منسجمٍ مع الآخرين، ووفيٍّ لما يؤمن به من قيمٍ ومبادئ.
إنَّ غرس ثقافة الاعتذار يبدأ من البيت والمدرسة، حين نعلِّم أبناءَنا أن الخطأ طبيعي، وأن الاعتراف به فضيلة. فالأمم التي تُربّي أبناءها على الصدق والشفافية، تُنشئ أجيالًا لا تخشى المواجهة ولا تهرب من الإصلاح. وكما يُرمّم الاعتذار الثقة بين الأفراد، فإنه يبني جسورًا من الاحترام بين الأجيال، ويزرع فيهم شجاعة تحمّل المسؤولية دون خوفٍ أو تبرير.
الاعتذار لا يُنقص من كرامة أحد؛ بل يرفعها. إنه إعلانٌ بأن الإنسان أكبر من خطئه، وأن الصدق مع النفس هو أول أبواب الإصلاح. فالمجتمعات لا ترتقي بكثرة الشعارات؛ بل بقدرتها على تصحيح أخطائها بوعيٍ وشجاعة. ومن يملك شجاعة الاعتذار، يملك شجاعة البدء من جديد.
