المنصب يدور ولا يدوم

 

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

أحيانًا، لا تأتي الدروس الكبرى في الحياة من الكتب ولا من التجارب الشخصية؛ بل من مشاهد عابرة تمر أمامنا كهمسة خافتة، لكنها تترك في القلب صدى طويلا. مشهد بسيط، جملة قصيرة، أو حتى خبر عادي، كفيل بأن يعيد ترتيب أفكارنا عن الحياة، والعمل، والوجود، وما الذي يستحق حقا أن نمنحه عمرنا.

رأيت يوما تغريدة كانت أشبه بمرآة للعمر. لم تكن فخمة الألفاظ، ولا مزينة بالبلاغة، لكنها حملت من الصدق ما يكفي ليوقظ ضميرا غافلا. كانت تحكي عن موظف رحل (توفى)، لم تمض أيام حتى بدأت الموارد البشرية في تجهيز إعلان "الوظيفة الشاغرة"، بينما عائلته لا تزال تبكيه، وتبحث في تفاصيله الصغيرة عن بقايا حياة لن تعود.

كم بدت الصورة مؤلمة وبسيطة في آن واحد! مؤلمة لأنها تذكرنا بأن الحياة لا تتوقف على أحد، وبسيطة لأنها الحقيقة التي نتجاهلها كل يوم ونحن نقنع أنفسنا أن العمل أهم من الراحة، وأن السعي الدائم نوع من البطولة، وأننا غير قابلين للاستبدال. والحقيقة أن كل كرسي يملأ بغيرنا في لحظة، وكل مهمة ينجزها شخص آخر، بينما لا أحد يمكنه أن يملأ مكاننا في قلوب من نحب.

هنا، يتوقف الزمن قليلا ليفتح أمامنا سؤالًا صادقًا: كم خسرنا من أعمارنا ونحن نلهث لنرضي الآخرين، ونسينا أن نرضي أنفسنا؟ كم مرة عدنا إلى بيوتنا بأجساد مرهقة وأرواح خاوية، نخفي تعبنا بابتسامة باهتة ونقول لأنفسنا: "سأرتاح لاحقا"؟ كم مرة أجلنا لقاء عائليا، أو جلسة هادئة مع من نحب، بحجة أن الوقت لا يسمح؟

لقد أصبحنا نقدس الانشغال كأنه وسام شرف، ونتعامل مع الراحة كأنها ترف لا يليق بالمجتهدين. بينما في الحقيقة، التوازن هو قمة الوعي، والاعتدال هو أكمل صور النجاح. فالحياة لا تقاس بعدد المشاريع المنجزة؛ بل بقدرتك على أن تظل إنسانا وسط كل هذا الضجيج.

أتذكرُ رجلًا عرفته ذات يوم، كان مثالا للجد والاجتهاد. لم يكن يتأخر يوما، وكان يحمل في قلبه شغفا لا يخمد. كل من حوله كان يصفه بأنه لا يتعب. لكن الحقيقة أن التعب كان يسكنه بصمت، إلى أن جاء اليوم الذي لم يستطع فيه النهوض من فراشه. قال حينها بصدق موجع: "كنت أظن أن العمل لا يسير بدوني، فاكتشفت أنني أنا الذي لم أسر بدوني."

ذلك الاعتراف كان أصدق ما سمعته في حياتي. لأننا حين ننسى أنفسنا في زحام الإنجاز، نفقد بوصلة الوعي، ونمنح الآخرين أفضل ما لدينا، ونبقي لأنفسنا البقايا. حينها، يصبح النجاح بلا طعم، والحياة بلا لون، لأن ما يبهجنا فيها ليس ما ننجزه فقط؛ بل من ننجز من أجلهم، وكيف نعيش معهم في سكينة وامتلاء.

وقد وضع الإسلام هذا التوازن قاعدة لا غنى عنها، حين قال الله تعالى: "ولا تنس نصيبك من الدنيا"، في تذكير رباني بأن السعي لا يجب أن يسرقنا من أنفسنا، وأن الحياة ليست عبادة العمل فقط؛ بل عبادة الوعي والتوازن. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا"، يكتمل المعنى بوضوح، فالنفس ليست آلة تعمل بلا توقف؛ بل أمانة تستحق الرعاية والرفق.

إن الراحة ليست ضعفا، والتوقف ليس كسلا؛ بل وعي بحدود الطاقة الإنسانية. فكما تحتاج الأرض إلى موسم راحة لتثمر من جديد، تحتاج الروح إلى لحظة هدوء كي تستعيد قدرتها على العطاء. إنك حين تمنح نفسك وقتا للسكينة، لا تقلل من إنتاجك؛ بل تضاعف من قيمته وجودته.

فلا تجعل العالم يقنعك أن الاستمرار في الركض هو النجاح. فبعض التوقفات تنقذ حياتك، وبعض الصمت يعيدك إلى نفسك. تذكر دائما أن العمل سيعوض، أما وجودك فلن يعوض أبدا. لا تؤجل نفسك إلى حين، ولا تنتظر الإنهاك لتقول:"كفى".

اغلق الحاسوب إن شعرت بالتعب، قل "لا" لمهمة يمكن أن تنتظر، واجلس مع من تحب دون جدول زمني. ابتسم لصغارك، أو امش وحيدا مع فكرة جميلة، أو اقرأ شيئا ينعش قلبك. لأن اللحظات الصغيرة التي تؤجلها، هي في الحقيقة ما يصنع عمرك.

وتذكر، لن يتذكرك الناس بعدد ساعات عملك؛ بل بطيب أثرك، ودفء حضورك، وصدق إنسانيتك. العمل سيبقى، والمناصب ستتبدل، لكنك أنت لن تتكرر.

الأكثر قراءة