سلطان بن محمد القاسمي
لم أصل إلى شيء عظيم، ولم أعبر منعطفًا حاسمًا، لكنني بدأت أبتعد عما كان يستنزفني دون أن ألاحظ. صرت أختار معاركي بدل أن أستدرج إليها، وأخفف حملي بدل أن أضيف إليه، وأغلق بعض الأبواب بهدوء لا يراه أحد ولا يحتاج شرحًا.
لم يكن ذلك انتصارًا يحتفى به؛ بل نجاة خافتة تشبه الهمس؛ نجاة لا تعلن نفسها، لكنها تعيد ترتيب الطريق من الداخل. ومع هذا الابتعاد الصامت، بدأت أرى أنني لم أعد أركض كما كنت، ولم أعد ألتقط كل ما يلوح في طريقي، كأن شيئًا ما في داخلي تعلم أخيرًا كيف يمشي بثبات دون استعجال.
ومن هنا تحديدا بدأت أفهم أن ليس كل معركة تستحق خوضها، ولا كل كلمة تحتاج ردًا، ولا كل جدال يعني شيئا في النهاية. تمر بك أصوات كثيرة، ووجوه كثيرة، وآراء كثيرة، لكنك لا تشعر بالحاجة لأن تنتصر فيها جميعا. تكتشف أن الانسحاب أحيانا ليس هزيمة، بل نجاة، وأن الصمت في بعض المواضع شكل من أشكال الحكمة لا يراه إلا من جربه بعمق.
ومع هذا الفهم الجديد، يتغيّر موقع التوافه في قلبك. لا يعكر صفوك تأخر بسيط، ولا يربكك خطأ عابر، ولا يسرق يومك زحام الطريق أو ضيق اللحظة. كأن صدرك اتسع دون أن تدري، وكأن الأشياء استعادت حجمها الحقيقي بعد سنوات من التضخيم. لم تعد تثقل روحك بما لا يستحق أن يسكنها، ولم تعد تمنح طاقتك لمن لا يعرف قيمتها.
هنا تبدأ باسترداد عقلك من الآخرين، ولا تسمح لأحد أن يفكر عنك، ولا أن يملي عليك كيف ترى أو كيف تحكم. أحكامك تصبح أبطأ، لكنها أعدل. وحين تصادف الكذب، لا تركض لإثبات الحقيقة، لأنك أدركت أن بعض الأكاذيب لا تحتاج محققا، بل تحتاج وقتا فقط. ووقتك صار أثمن من أن يُستهلك فيما لا يضيف لك حياة.
ثم يحدث تحول آخر لا يقل عمقا، حيث تتوقف عن انتظار "الأكمل" كي تبدأ. وتنسحب بهدوء من مطاردة المثاليات التي تجمدك في مكانك، وتختار أن تمشي على الممكن الجميل، لا أن تقف طويلا عند المستحيل المتخيل. تقبل بما هو حسن؛ فيفتح لك هذا الحسن طريقا نحو ما هو أفضل دون أن تشعر. تفهم أخيرا أن الانتظار الطويل بدعوى الكمال قد يكون استنزافا مموها باسم الطموح.
وفي علاقتك بنفسك، يحدث التحول الأهم. لم تعد تنساها في زحمة العطاء، ولم تعد تحرقها بحجة المسؤوليات. تفهم دون تنظير طويل أن أحدًا لن يسهر عنك إذا أنهكت، ولا أحد سيتألم بدلًا منك إذا مرضت، ولا أحد سيحمل قلبك إذا أثقله التعب؛ فتتعامل مع نفسك باحترام جديد، تعطيها حقها دون شعور بالذنب، وتدللها دون أنانية، وتحميها دون قسوة.
أذكر رجلا التقيت به ذات مرة، لم يكن غنيا ولا مشهورا، لكنه كان هادئا على نحو لافت. قال لي وهو يبتسم: "أمضيت نصف عمري أراقب الناس، وأحسب خطواتهم، وأغار من مساراتهم، ثم تعبت. في يوم واحد فقط قررت أن أراقب نفسي بدلا منهم".
لم تتبدل حياته من الخارج كثيرا، لكن من الداخل تغير كل شيء. صار ينام بلا ضجيج، ويستيقظ بلا ثقل، ويعيش بلا مقارنة. يومها فهمت أن بعض التغيير لا يحتاج انقلابا في الظروف، بل انقلابا في زاوية النظر.
وحين تصبح حياتك لك، تكف تدريجيا عن ملاحقة أخبار الآخرين. لا تسألك الروح أين سافروا، ولا ماذا يملكون، ولا كيف يعيشون. تصبح حياتك كافية، ومساحتك الداخلية أوسع من فضولك. لا تمد عينك لما في أيديهم، ولا تستنقص ما في يديك. تقبل ما كتب لك وأنت مطمئن أن غيرك لن ينقصك، ولن يزيدك.
ومع هذا الاتساع، تبدأ برؤية البشر على حقيقتهم لا على مثالياتك القديمة. فيهم الطيب وفيهم القاسي، فيهم العميق وفيهم السطحي، فيهم من يملك المروءة وفيهم من لا تسعفه أخلاقه حتى في أوقات الوئام. فتخفف توقعاتك، وتوزع المسافات بحكمة، وتختار موقعك من كل قلب بما يحفظ سلامك، لا بما يرضي الجميع.
ثم تصل بهدوء إلى قناعة أن الحياة لا تحتاج منك صراعا دائما، بل وعيا دائما. وأن بعض ما لا يمكن تغييره يحتاج قبولًا ذكيًا، لا شكوى طويلة. وأن تغيير ما يمكن تغييره يحتاج شجاعة هادئة، لا اندفاعا مؤقتا.
وهنا فقط، تشعر أن حياتك صارت لك، لا لأنك امتلكت كل شيء، بل لأنك لم تعد مملوكا لما يؤذيك، ولا أسيرًا لما يستنزفك، ولا عالقا في سباق لا يشبهك.
أحيانًا أعود بذاكرتي إلى تلك النسخة القديمة مني، التي كانت تركض كثيرًا، وتقلق أكثر مما ينبغي، وتعتقد أن الاستحقاق لا يأتي إلا بعد تعب مضاعف، وأن الراحة تهمة تحتاج تبريرا. أبتسم اليوم وأنا أستعيد تلك المراحل، لا لأنني تجاوزتها بالكامل، بل لأنني صرت أفهمها. ذلك الإنسان الذي كنته لم يكن مخطئا، كان فقط يتعلم بطريقته. واليوم، لم أعد أطلب من نفسي أن تكون خارقة، يكفيني أن تكون صادقة، متزنة، وأقرب إلى الله منها إلى ملذات الدنيا، وهذا وحده كاف.
وفي تلك اللحظة التي لا يعلنها أحد، تشعر أن قلبك لم يعد ساحة حرب، ولا رأسك ميدان سباق، ولا روحك حلبة انتظار. تشعر فقط أنك أخيرا في مكانك الصحيح، لا لأن الطريق انتهى، بل لأنك صرت تمشي فيه بلا خوف. حينها تفهم أن الحياة لا تُمنح دفعة واحدة، بل تُكشف لك طبقة بعد طبقة، وأن أثمن ما تهبه لك ليس ما تحمله يداك، بل ما يسكن صدرك من اتساع.
وهكذا، دون احتفال، ودون شاهد سوى الله، تصل إلى نفسك، وتكتشف أن أعظم وصول هو ألا تضيع منك مرة أخرى.
